الخميس، 1 يوليو 2010

يوم عاصف




عند حوالي الساعة السادسة صباح يوم الاثنين 14 تموز 1958 و نحن نائمون على سطح الدار بمحلة سوق القطانين بالسرجخانة و اذا بصوت عبدالاله اغوان (ابن خال والدي ) وهو يصيح من سطح داره المتاخم لسطح دارنا :"قومو , قعدو قتلو الملك و الوصي." كنت انا بسن 14 وكنت في الصف الاول متوسط انذاك. نهضنا من مضاجعنا و هرعنا الى الحوش و فتح عمي عثمان الراديو علامة السيرا الالماني ابو اللمبات و كانت راديوات تلك الفترة تستغرق حوالي اكثر من دقيقة كي تقوم باستقبال بث المحطات. و بالذات تلك المرة التي فتح عمي عثمان الراديو لنسمع الخبر الذي اعلمنا به عبد الاله بدت فترة احماء الراديو كانها سنوات و نحن نصيح على الجهاز :"يول دييييء احمى بقى." و اذا بصوت (تبين فيما بعد انه صوت عبد السلام عارف) يلقي بيان الثورة و من جملة ما لا زلت اتذكره هو : "قام الشرفاء من ابناء جيشكم الباسل بالقضاء على الطغمة الفاسدة ... " و بدا الفرح على الجميع ما عدا والدي الذي اكفهر وجهه و ابدت امي اسفها على القتل و نهب قصري الرحاب و الزهور بينما زوجة عبد الرحمن اغوان السيدة سلوى ابنة السياسي العراقي التكريتي الكبير مولود مخلص التي كانت تربطها علاقات شخصية ودية بسيدات القصر الملكي انفجرت باكية و نحن في سرنا كنا نستسخف بكائها. استمر الراديو يلعلع بالبيانات و الموسيقى العسكرية و تلاوة برقيات التاييد من المواطنين و من جملتها برقية عبد الاله اغوان التي اتذكر نصها : "نهنئكم بسقوط باستيل العراق" و باستيل العراق اشارة الى سقوط الباستيل الفرنسي في الثورة الفرنسية و التي صادف حدوثها بنفس اليوم الذي هو 14 تموز في سنة 1789 و ان عبدالاله اغوان صاغ برقيته باشارة الى الباستيل لان كان عبدالاله بتلك السنة مكملا بمادة التاريخ في الصف الخامس ثانوي وهي السنة الاخيرة من الدراسة الثانوية و هكذا كان يدرس عبدالاله في تلك الصيفية تاريخ الثورة الفرنسية و سقوط الباستيل يوم 14 تموزسنة 1789. بعد تناولنا الافطار جاء عبد المالك اغوان بمعلومة اضافية قائلا ان الذي قام بالثورة هو عسكري كبير اسمه عبد الكريم السالمي (تبين فيما بعد انه عبد الكريم قاسم). خرجت من الدار و التقيت صديقي نجيب احمد القطان و خرجنا الى شارع نينوى في المنطقة التي يتفرع منها الشارع الى جامع الكبير شمالا و الى سوق القطانين جنوبا , والى محلة الساعة غربا و الى بقية الشارع الذي يمتد الى جسر العتيق شرقا. و نجيب وانا كنا نتحدث و اذا باشخاص اخرون كذلك , و جاء اخرون , و اذا بعددنا يصبح حوالي عشرة و قال احدنا :"يلا نمشي مظاهرة تأييد للثورة". شرعنا بالسير و نحن نصفق و بعضنا الاخر يهتف بحياة الحكومة الجديدة و سقوط الحكومة البائدة. سرنا و اذا بكل من في الشارع ينضم الى المسيرة , و مثل موعظة الجبل لسيدنا عيسى وانا مازلت احفظ النص الانجيلي الذي يقول : " حينما اقبل الناس من الناصرة , و جاءوا من القدس , وجاءوا من الجليل , وجاءوا من طبرية , وجاءوا من بيت لحم , جاءوا ليسمعوا المعلم." (طبعة كمبرج الحديثة للانجيل حذفت العبارات المتكررة التي تشير الى الذين جاءوا من كل هذه المكنة و اكتفت طبعة كمبرج الحديثة بالقول بان الجميع جاءوا ليسمعوا المعلم) , كذلك اقبل الناس للمشاركة بالمظاهرة , جاءوا من عوجات السرجخانة وجاءوا من سوق الزغيغ وجاءوا من شارع النجفي وجاءوا من المكاوي وجاءوا من سوق الشعيغين وجاءوا من قنطغة الجومرد , بحيث حينما وصلنا المنعطف المؤدي من شارع نينوى الى شارع غازي كان عددنا بالآلاف و حينما وصلنا امام سينما الملك غازي (الفردوس فيما بعد) بمنطقة الصوافة صحنا بان تنزل رقعة السينما لان مكتوب عليها اسم الملك غازي الذي هو من الاسرة المالكة البائدة. توقفت المظاهرة بباب الطوب و بعد اهازيج و هتافات وتصفيق عدنا الى بيوتنا.



كانت تلك اول و آخر مظاهرة اخرج فيها عن قناعة و ذلك لاني كنت احلم بان 14 تموز جاء ليحقق حلمي و حلم الشعب العراقي بغد جديد و عراق جديد تسود فيه الحرية و الديمقراطية و العيش الرغيد.

ولكنني بعد ستة شهور من قيامها , ادركت ان ثورة 14 تموز 1958 انما هي بلاء حل بالعراق , واني منذ حينئذ ولحين قيام ساعة يوم يبعثون انا في ندم و توبة و احساس بالخزي و العار على خروجي في تلك المظاهرة حوالي الساعة العاشرة من صباح يوم 14 تموز 1958 يوم قيام ثورة عبد الكريم قاسم و عبد السلام عارف , و اني اقتبس ديباجة ما قاله الملك الفرنسي لويس السادس عشر لحظة اعدامه بالمقصلة , فأعلن انا, صديق توفيق اغوان , ههنا امام الله و التاريخ و الجميع لو انني بقدرة قادر عرض علي ان ادفع الثمن بحياتي في ان يرجع العراق الى فترة ما قبل يوم 14 تموز 1958 لقبلت عن طيب خاطر , و اني اعلن هذا القول ليس ادعاء بالتضحية و الشرف و بالوطنية و لكن بفعل ضمير يوخزني بشوكة الحق ولا يحق الا الحق , وان تقوم بعمل شيء صحيح و تخسر افضل من ان تقوم بشيء خطأ و تربح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق