الأحد، 4 يوليو 2010

بيوكرافيا




قبل سنوات طويلة كتبت رسالة إلى احد أعمدة الإعلام  وهو فيصل الياسري ارجوه التوسط في نشر مقالتي النقدية عن مسرحية محطات السنين فيما يلي تلك الرسالة تعقبها المقالة النقدية والتي أسميتها بعنوان : أشباح في المحطة .

في منطقة بيزووتر بلندن قبل سنوات وأنا أسير بسبيلي استوقفتني سيدة وقالت إنها تحتاج لأسمي وهاتفي لوضعي في إحدى وكالات التعارف . أعطيتها ما أرادت . وبعد فترة قمت أتلقى المكالمات الهاتفية من غريبات يردن التعارف . في الأخير اتفقت مع ماري مكماهون التي وصلت لتوها لندن مع أصدقائها اللألاسكيين لقضاء بعض عطلة الصيف . في نهاية المكالمة الهاتفية ، اتفقنا على اللقاء في محطة بادنكتن ، وقبل أن نغلق الخط سألتها كيف سأعرفها ونحن لم نلتق مسبقاً أبدا ، قالت أنها ستكون مرتدية قميص وردي وربطة شعر بنفس اللون تقريباً ، قلت لها أني ملتحي وبعدسات . كنت من سكنة مدينة اكستر التي تبعد عن لندن بعد الناصرية عن بغداد تقريباً ، وكانت عندي لحية لم أربها أنا ، إنما نمت لحالها ، كما قال برنارد شو عن لحيته .

هذا الاستهلال ليس لأقول أني نوع من كلارك كيبل في الثلاثينات أو همفري بوكارت في الأربعينات أو جيمز دين في الخمسينات أو وورن بيتي في الستينات أو جاك نكلسن في السبعينات ( أنا جاهل الثمانينات والتسعينات لأني منسحب من الساحة السينمائية الحالية ) – الحقيقة أني اعتقد أن الخمسينات كانت فترة فردوس السينما ، فقد رضعت حليبي السينمائي من مَمّات من الآن وإلى الأبد ، شين ، ذئاب الميناء ، معتقل 17 ، العملاق ، الباحثون – وأفلام أخرى عديدة وممثلين في هكذا أفلام . أردت أن أقول لك يا سيدي بأننا في الأشهر الثلاثة أو الأربعة الأخيرة التقينا عن بعد. الحقيقة أنا ارتاح لهكذا لقاءات عن بعد ، مثل تينسي وليامز الذي قال ذات مرة انه يرتاح لتحية بإيماءة يد تأتي من البلكون المقابل في دار مسرح أكثر من تحية فيها شد على الأيدي بالمصافحة ، ولو أني عصيت هذا المبدأ وصافحتك ونحن نهم بمغادرة مسرح الرشيد بعد نهاية عرض وداعا يا صفر . على الرغم من وجود كلمة " وداع " في عنوان المسرحية ، آمل أن ينطبق على مصافحتنا وصف ملتن في الفردوس المستعاد وهو يقول : " مرحبا أيها النور اللامع ". كنت أنا بمعطفي النيلي وكاسكيت ولفاف من نفس العائلة اللونية ، وكنت بذلك أبدو كراديكالي من بطرسبرك في السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر وهو يهم بمغادرة مسرح ليدلف إلى مشرب وأنت بعباءتك النيلي لم تكن تبدُ مثل دراكيولا وعباءته تهبهب على كتفيه وهو يسعى بضوء القمر ينبش جثة من مقبرة أو لعض بنت الجيران – أرجو أن تعذر صراحتي ولربما ميانتي وهذا تأثير برنارد شو على حيث كان يكتب على صحفات الجرائد من دون كلفة أو رسميات عن أناس لا يعرفهم شخصياً ، وهكذا أمر يؤدي كما يقول همفري بوكارت لأحد الأشخاص وهي آخر جملة في كازابلانكا : " هذه بداية صداقة جميلة " ، أو يأخذ المرء جانب الحذر، مثلما يفعل بوزو في مسرحية صموئيل في انتظار كودو حين يقول لفلاديمير واستراكون : " ديروا بالكم يا جماعة ، ترى إذا استمرينا بهذه الميانة راح نصير أصدقاء ". وبرنارد شو الذي عاش من عصر الشمعة حتى عصر الذرة وعرف الناس من الملكة فكتوريا وحتى روي بولتيير وهو صاحب فندق ومشرب في اكستر كان له فرصة رؤية برنارد شو وهو يدخل بيته ، فان برنارد شو لم يسمح بصداقة أحد مطلقاً . وبدوتَ كرب عائلة موفق في حياته الشخصية ، وبذلك قد فقدت الكثير من عنصر البطولة البايرونية ، فطريقة مشيتك ثم الوصول إلى الباب الخارجي لمسرح الرشيد وقبل الخروج باستدارتك بدوت كشخص قد لقي له ركناً هادئاً مستقراً في كون متلاطم . ولم يكن عندك ما يسميه جون هيوستن وهو يبحث عن ممثل جديد كأحد أبطال فلمه المدينة السمينة سنة 1972 إذ كان يتوسم فيه نوع من الغم نوع من الهموم الحياتية المعاشة التي تسبغ عليه انسحاقية ، ولو من دون قبول الاستسلام ، نوع من هر مدعوس في شارع وقد جرجر جسده الجريح إلى قارعة الطريق وعلى الرغم من ذلك فهو يتشبث بالحياة . وفي الأخير عثر جون هيوستن على ضالته في الممثل الزنجي الذي بعد أن قرأ عليه هيوستن في لوبي احد فنادق سان فرانسسكو بعض فقرات دوره ، سأله هيوستن ، " والآن خذ أحفظ الدور حسب نص السيناريو" ، فرد عليه : " لقد حفظت ما قرأتَ توا ، ولا داعي للسيناريو فأنا أُمّي " .

لمدة 25 سنة يحاضر البروفيسور في مسرحية شيخوف الخال فانيا – وأنا كذلك صار لي تقريبا نفس المدة معشعش في جامعة الموصل ، إلا أن ظروفي جعلتني أباشر في الجامعة المستنصرية منذ أيلول الماضي . وفي ملتي واعتقادي إن ربع قرن من تدريسي التراجيديا والكوميديا السوداء والكروتيسك واللامعقول قد تسرب إلى حياتي الشخصية الواقعية مما جعلها في الأخير نوعاً من هذه الأنماط الدرامية . ونحن نعرف أن المسرحية هي التي تحاكي وتقلد الحياة ، وفي حالتي أصبحت الحياة هي التي تحاكي وتقلد المسرحيات ، والأعمال الأدبية بشكل عام ، لا بل أحياناً في نظري ، تبزّها من ناحية حبكتها وهندستها الدرامية ومدلولاتها الفكرية وفي الأخير تأثيراتها الفنية . في رواية تولستوي الحرب والسلام وفي رواية نجيب محفوظ السكرية حادثتان من نفس النوع : زوجة حامل تموت بعد أن تضع طفلاً ، في كلتا الروايتين الموقف كالآتي : الزوجة في ساعة المخاض والزوج ينتظر عند باب الغرفة وبعد الولادة يدخل على زوجته التي ما تزال حية ، ويرى الطفل فيكون هناك فرحة من نوع ما ، لكن في الأخير تموت الزوجة وينقلب الموقف إلى مأساة . عندما أتيت بزوجتي من الموصل إلى بغداد لتضع مولودها البكر وهي مع أهلها في بغداد ، ذهبنا بها إلى المستشفى وكان الموقف كما يلي : دخلت هي إلى غرفة العمليات وأنا عدت إلى الغرفة المحجوزة لها .

وبعد ساعة أتوا بالطفل فكنت أنا وهو ، وهي غائبة في غرفة العمليات انتظرت كي يأتوا بها ونكون ثلاثتنا إلا أن الممرضة قالت لعلها تستمر في غرفة الانتظار حتى الليل ، وأنا في جيبي بطاقة قطار بغداد – الموصل ، وفي اليوم التالي عندي دوام في جامعة الموصل ، فقالت إحدى أخواتها " سافر للموصل وترجع إن شاء الله الخميس وميسون وعلاوي عندنا في البيت ينتظرانك " – وجدت ذلك معقولاً ، بعد أن سافرت استفاقت ميسون وإلى جانبها علي وسألت عني اخبروها بالموضوع . وفي اليوم التالي ماتت وحينما وصلني الخبر بالموصل ووصلت بغداد كانت في الصندوق ولم يتسنى لي رؤيتها . الآن هي في العالم الأخر وأنا بمعية ابني علي . المفارقة القدرية بالموقف هي إننا لم نجتمع ثلاثتنا معاً إذ كانت توليفة الموقف كما يلي : هي وأنا – أنا والطفل – والطفل وهي – الطفل وأنا – تلاحقني عناوين الأعمال الأدبية والسينمائية مثل الجراد الذي يقلب النهار ليل كما يصفه ملتن في الفردوس المفقود فحينما قلت " الطفل وأنا "، تذكرت اسم فيلم الملك وأنا للممثل الأقرع يول برينر . ألا يحس المرء أن هناك قوى خفية تؤلف سيناريوهات حياتنا ، وهي قوى عاقلة تعرف ما تفعل ؟ النفساني والروحاني يونك يقول في إحدى رسائله : " يحس المرء أحيانا أن هناك قوى خفية تعمل عملها في الوجود ". وفي أحيان أخرى كنت أنا عامدا اجعل حياتي الواقعية تحاكي وتقلد المسرح والأدب ، فكنت أقول لميسون : " أنت مثل لايجيا في قصة ادكار الآن بو وهي مريضة ويأتي زوجها ويقرأ عليها بعض القصص والحكايات ". فعلا كانت ميسون في فترة نقاهة بعد عملية كورتاج ، وكنت اقرأ عليها قصص الأنبياء ، كتابها المفضل ، وهي ممدة على الفراش . وكنت في مناسبة أخرى قد قلت لها : " أنت مثل ايفلين في مسرحية اونيل جاء رجل الثلج حيث يقتلها زوجها هيكي بطلقة مسدس وهي نائمة ". وكنا فعلاً نقوم بتمثيل الدور على فراش الواقع . ومرة أخرى قلت لها : " لنتصور انك ميتة وأنا وحيد في البيت ومن ثم أصيح : "ميسون" وإذا بمعجزة تعيدك إلى حية ". وفعلاًُ كانت تصعد للطابق العلوي للمنزل وأبقى وحيداً في أسفل الدرج وعلى أساس أنها ميتة وأنا لوحدي ، ومن ثم على أساس في ضيقي أصيح : " ميسون " – وحينما كنت أصيح اسمها ، كانت تظهر لي أعلى الدرج – بالضبط مثل زوجة الملك في مسرحية شكسبير قصة الشتاء التي فحواها أن في ظروف خاصة على أساس زوجة الملك ماتت ولو في الحقيقة أنها متخفية عند إحدى خادماتها ، ويبقى الملك يولول ويتعذب لمدة 16 سنة . في احد الأيام أتت إليه الخادمة وتقول للمك أن يحضر إلى معبد الإله جوبيتر لعل الإله يستجيب لدعائه ويعيد له زوجته الميتة . وطبعاً الخادمة قد أتت بالزوجة الحية ووضعتها في زاوية مظلمة خلف تمثال جوبيتر . عندما يصيح الملك ليونتيز " هيرميوني " وهو اسم وزوجنه – تظهر عليه من وراء التمثال جوبيتر.

لمدة 3 سنوات في نفس البيت لوحدي في الموصل لم أجرؤ أن أصيح " ميسون ". لم أستطع أن افعل ذلك ، إذ حينما كنت أهم أن افعل ذلك ، كنت أحس كأنما سينخسف الكون من تحت قدمي ، مثلما يحس هيلمر زوج نورا في مسرحية ابسن بيت الدمية . وكذلك أحس باني سأستغرق 9 أيام بلياليها في سقوطي لأصل القاع مثلما يحدث للشيطان وجماعة الملائكة الساقطين حسب ملحمة ملتن الفردوس المفقود . وكأحدهم أنا ملاك ساقط من الجنة يتذكر أيام عزه ، وحياتي تنبثق من صفحات الكتب .

إني مؤمن أن بعض الناس الذين ينغمسون في عمل يحبونه من الصميم فإنه يدخل إلى حياتهم . حاول دوريان كراي بطل رواية اوسكار وايلد إن يحول دون هذا التأثير بأن يجعل صورته تشيب وتزداد قبحاً بينما هو في حياته الواقعية يزداد شباباً وجمالاً ، لكنه حين يموت في النهاية ، تنقلب جثته إلى عجوز قبيح بينما تشرق صورته المعلقة في الإيوان بالنضارة والجمال . والأميرة آن من شدة حبها للخيل ومعاشرتها لهم اخذ وجهها يكتسب ملامح وجه فرس – وهذه ملاحظة ناقشتها الصحافة المحلية بوقتها . صموئيل بيكت من كثرة سهومه ( دالغاته وصفناته ) اكتسب وجهه سمات وجه بعض الديوك الهندية الصافنة . وموزارت لأنه كان يحب أكل السمك اكتسب وجهه في منطقة الفم والفك الأسفل منظر كوسج . ميرابو خطيب الثورة لكثرة احتسائه النبيذ اكتسب جسمه هيئة برميل ، ودوستريفسكي لأنه نجا من الموت اكتسب وجهه وجه قط. اجل فالوجه كثيراً ما يدل على الجوهر فمثلاً ليس من المبالغة أن يجعل دفنشي ، في لوحة العشاء الأخير التي رسمها على حائط مطبخ ، وجه يهوذا الاسخريوطي مختلفاً بجعل بشرته بنية غامقة . والأساطير الإغريقية لم تنس هذا الموضوع فهكيوبا من شدة بكائها على زوجها وأبناءها وسقوط طروادة تنقلب إلى كلب نواح يعوي . دافني التي لحقها ابولو وهي تستنجد راكضة ، انقلبت إلى شجرة حيث كانت فاتحة ذراعيها ومطلقة شعرها للريح . ليديا التي ضاجعها ابولو ، وبعد ولدت له هيلين انقلبت ليديا إلى بطة لان ابولو اشتهاها كذلك ، كبطة . كتاب اوفيد التحولات فيه تفاصيل أكثر . وفرانز كافكا من شدة احتقار والده له اخذ يحس بالدونية لدرجة انه أسقطها على كريكور ساسا وقلبه إلى صرصار، فالصرصار هو ما كان يحسه كافكا وليس أي شيء أخر. إما أن يأتيك النقاد ويتباكون على أساس أن هذه عقدة اضطهاد اليهود في العالم فهذا قميص عثمانهم . وهناك نوع آخر من التأثير يدخل في حياة الناس ، فمثلاً فليمنك مخترع البنسلين كان دائماً يلعب في صيانات المياه القذرة في الدربونة ، ودارون كان دائماً يلعب بالدود ، ونيتجة كان دائماً عصبي ويكفر إذا لم تعطه أمه خرجية ، ونابليون حينما كان صغيراً كان يعجبه التضارب بالسيوف مع أبناء الطرف .

يقول هنري جيمز إن الروائي العظيم هو الذي يستطيع أن يصور تاريخ العائلة من طريقة جلوسها لتناول شاي العصر ، ويقول شيخوف : مجموعة من أفراد العائلة تجلس لشرب شاي سماور وإذا في نفس اللحظة تتقرر مصائرها ، ويقول عزرا باوند لنجلس نشرب الشاي ونلعن القياصرة .



أثناء شرب شاي العصر ، ليس على طريقة مارلون براندو وكلين فورد في ضوء القمر حسب فلم مشرب شاي في ضوء القمر ، لكن على طريقة ليدي اوغسطا براكنيل وكويندولين فيرفاكس وجاك ايرنست وايلجرنون مونكريف في مسرحية وايلد أهمية الجدية . بينما نحن أفراد العائلة نتحدث ، جاء الحديث عن تاريخ عائلتنا . بعد جمع وطرح السنين والاستعانة بـ موسوعة لاروس تبين أن جدي الرابع كان قد تراشق بالرصاص مع تولستوي إبان حرب القرم سنة 1856 . لا يزال عندنا " نيشان افتخار" التي كُرّم بها جدي الرابع ، سليم أغوان . سقتُ هذه الاستطرادة لأذكرك يوم أنت وأنا تراشقنا بالآراء قبل أربعة أشهر في مسرح الرشيد بعد عرض مسرحية قطط ، وبعد أيام ظهر لك عمود في جريدة الثورة تشير إلى أولئك الذين " مدحوه " يعني مدحوا المخرج . أتصور أني احد المقصودين ، ولو أني امتدحت جانباً في النص المسرحي وهو أن الحياة تصبح أحيانا جحيماً لدرجة يصبح معها الموت هو الأمل والفرج الوحيد وهكذا فإن البطل حينما يخسر حربه في حياته الشخصية يذهب للجبهة ليس استبسالاً ولكن انتحاراً ، كما وأنها مفارقة قدرية ، فالرشاش الذي كان المفروض أن يقتل به أعدائه ، يقتل به زوجته وصديقه ، وفي الأخير انتهيت إلى الاستنتاج أن جحيم الحرب لأهون بكثير من جحيم الحياة الاجتماعية .

حينما مات هاري كون ( سمّاه احد المؤلفين فيما بعد في كتاب عن قصة حياته باسم كنك كون وهو كذلك اسم الكتاب ) مدير كولومبيا سنة 1958 ، حضر مراسيم الدفن أيليا كازان وكان من ألد أعدائه بعد أن رأى منه الويل حينما كان يعمل فيلم على الميناء المترجم في العراق حينما عرض بسينما غازي في الخمسينات المبكرة باسم ذئاب الميناء ، هذا الفيلم الوحيد الذي عمله كازان عند كولومبيا ، سأل احد العارفين بالموضوع كازان أن ما عسى أن جعله يحضر مراسيم دفن عدوه ، قال كازان : "جئت أتأكد انه مات فعلاً ". وعلى النقيض من هذا الشعور حضرنا فاتحة المرحوم هاني هاني . بمجلس العزاء ، كنت تبدو في إطار اجتماعي مرموق كأحد شخصيات ابسن في الفصل الأول للمسرحية ، وكنت أنا أبدو كشخص ملاحق مثل احد شخصيات تينسي وليامز – يوم ميلادي هو 15 أيلول هو نفس ميلاد بلانش بطلة مسرحية عربة اسمها الرغبة – أو شخص مسكون مثل احد شخصيات يوجين اونيل أو مصدوع مثل الزوج في أميديه أو مخطوف مثل هيثكلف في مرتفعات وذرنك .

من وجهة نظري ، كانت موتة المرحوم هاني هاني ، ذات سمات لها علاقة بالقوى الغيبية التي تؤلف سيناريوهات الحياة البشرية في عالمنا الأرضي . تعرفت على المرحوم يوم الخميس قبل وفاته بتسعة أيام . كنت واقفاً معه في مدخل مسرح الرشيد في مثلث كان هو إحدى زواياه وأنا الزاوية الثانية ونازك الاعرجي الزاوية الثالثة . كنت اطلب من الاعرجي أن تنشر لي مقال في جريدة الجمهورية ، فقالت لا تستطيع أن تضمن ذلك ، فقلت لها أن وجد له مكان ، وكنت أشير طبعا إلى قصة صحفية نعرفها حينما نشر نعي احد الأشخاص في الجريدة وكانت العبارة الأخيرة تقول : "اسكنه الله فسيح جناته " والطباع أقحم بطريق الخطأ الملاحظة التي كان قد همشها مدير تحرر الجريدة والتي تقول : " ينشر إن وجد له مكان ". فجاءت العبارة في نهاية النعي : " اسكنه الله فسيح جناته أن وجد له مكان ". وبعد أن قلت عبارة : " إن وجد له مكان " رددها المرحوم هاني وهو كمن فهم أصل القصة واشترك ثلاثتنا ببسمات إزاء هذه القصة الصحفية الفكهة – التي بعد 9 أيام انقلبت إلى مأساة واقعية تجسدت بوفاة الفنان هاني هاني.

ومن جهة أخرى كان موتة المرحوم هاني هاني ذات سمات عبثية (أبسرد) . صباح يوم الأحد 28 شباط (فبراير) المنصرم ابتدأت تدريس طلبتي بالجامعة المستنصرية مسرحية بيكت في انتظار كودو وكمقدمة للمسرحية ومسرح بيكت كنت أشرح مع الأمثلة كلمة (أبسرد) وحينما كنت عصر نفس اليوم متمدداً على السرير وأنا أتصفح الجمهورية بعد الغداء ، إذ أقرأ خبر نعياً للمرحوم هاني هاني ، ومن دون وعي وبصوت هامس مسموع قلت : " ابسرد ، ابسرد " لأنها كانت وفاة مفاجئة جداً وكنت قبل أسبوع ألقى تحية الوداع على المرحوم بعد نهاية عرض الرأس في مسرح النجاح . من كان يعرف إنها كانت تحية الوداع ! على شاكلة مقولة ليدي مكبث : " من كان يعرف أن في الشايب هكذا كمية من الدم ؟ ".

ومما يزيد في سمة العبثية في الموقف أن المرحوم توفى بحادث سيارة مثلما مات البير كامو المبشّر بمذهب (الابسرد) وهو الذي صاغ هذه الكلمة بمفهومها العصري ، إذ أن عم هاملت يستعملها ، لكن ليس بالمفهوم الذي جاءنا به الرجل الذي أيضا مات بحادث سيارة – البير كامو . فقط شيء واحد اجهله هل كان في الموضوع ، موضوع وفاة المرحوم هاني هاني ثمة شجرة ؟ إذ في موضوع كامو يوجد شجرة ، وفي مسرحية كودو هناك شجرة كذلك . نحن جالسون هنا تحت الشجرة - أهي شجرة الحياة ، أم شجرة الموت ! والقوى الخفية تؤلف سيناريوهات حياتنا والحبل على الجرار ، وكما تقول اوفيليا في جنونها بعد أن يقتل هاملت أباها " نعرف ما نحن عليه لكن لا نعرف ما سنؤول إليه " أو مثلما يخاطب احد الرهبان روح توماس بيكت في مسرحية اليوت جريمة قتل في الكاتدرائية قائلاً : " أبانا ، أبانا ، من أي علياء تنظر إلينا ؟ " ومثل الخال فانيا حين يصيح على روح أخته الميتة : " أين أنت الآن ؟ " . في احد الأيام مات ألبرت رفيقنا في التسكع في اكستر ونحن وأرملته في المحرقة التي أحرقت رفاته ، وإذا بالأرملة تتبكبك ونحن نشجعها وإذا بمالكولم يقول : " لا تحزني ، إذ لربما في هذه اللحظة ينظر إلينا ألبرت وهو يضحك ". وفي الختام كما يقول الماركيزدي ساد في مسرحية بيتر فايس مارا / صاد : " واني بعد أن أموت أريد أن يمحى كل ما اتركه من اثر وان أكون نسياً منسياً " .

مهما يكن من أمر ، اكتب هذه الأسطر ( التي هي جزء من عمل سيرة ذاتية أروم كتابتها تحت عنوان النمط والثمن إذ في ملتي واعتقادي أن كل فرد مثلما عنده طمغات أصابع خاصة به فقط ، فعنده نمط حياة خاصة به ، وكذلك كل واحد يدفع ثمن وجوده وحياته بشكل خاص به ).

أنا انظر أليك مثل بارون من بارونات الصحافة ، مثلما كان جي جي هينسيكر بارون الصحافة النيويوركية الذي مثل دوره برت لانكستر في فيلم اليكسندر ماكينيرك عبير النجاح الحلو الذي ترجم إلى نشوة النصر حين عرض في سينما الخيام في الستينات المبكرة . أرجو أن تعينني في نشر المادة المرفقة في إحدى الصحف أو المجلات ، إذ أني غريب في المدينة .

حينما خابت مساعي جيمز جويس الشخصية في العثور على ناشر لنشر روايته يوليسيز سمع بالأمر عزرا باوند فأخذ المخطوطة ودخل مكتب مدير احد دور النشر الإنكليزية في باريس وطلب من الناشر مهدداً إياه بالشمسية التي كان يحملها على نشر الرواية – وفعلاً نشرها . لا يليق تقليد هذا العمل ، لكن من الممكن الاستلهام منه ، أو على الأقل تأمله .

بعد أن أنهى بيتهوفن قداس في دال الصغير : ميساسولمنيز كتب قائلاً : " من القلب وآمل إلى القلب " . وبدوري أقول مؤكداً أن هذه الأسطر كتبتها من القلب ، ولو أني لا أشارك بيتهوفن عظمته ، إلا أني أشاركه أمله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق