الاثنين، 5 يوليو 2010




المقدمة

أولا. مدخل إلى كتابة السيرة الذاتية

: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، وإن لم يستطع فبلسانه ، وإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ""  .

في الحياة ، في الأدب ، كل ما يقوم به المرء أو الشخص في العمل الأدبي هو أحد أو أثنين أو ثلاثة ( لا يوجد احتمال رابع ) من هذه الأمور ، وحينما قال أرسطو طاليس في دراسته الدراما في كتابه صناعة الشعر يُعرِّف الفعل الدرامي كما يلي : " هو محاكاة لفعل ... " ولم يذكر أرسطو طاليس حيثيات الفعل الدرامي نفهم وبإمكاننا أن نستنتج أن الفعل عند أرسطو طاليس لا يعني بالضرورة الفعل بالمفهوم البدني وحسب إنما يمتد ذلك ليشمل الفعل بالمفهوم الكلامي وكذلك الفعل بالمفهوم النفسي ، وما قاله الرسول بإيجاز وإيضاح ودلالة ، تجشم أرسطو طاليس عناء قوله في كتاب كامل ، وان أرسطو طاليس على الرغم من تمخضه العسير يحتاج إلى الإطناب في الإيضاح كي نفهم كلامه .

الأدب هو محاكاة للحياة لكن الأدب انتقائي في أحداثه وشخوصه ففي الحياة تحدث أمور كثيرة ولكل إنسان تحدث أمور كثيرة ، لكن القليل هو ما يصلح مادة أدبية أو مادة تستأهل التسجيل على الورق . احد الأيام طلبت إحدى دور النشر في بوسطن إلى الروائي هنري جيمز إن يكتب سيرة حياة زميله وصديقه جيمز رسل لويل ، لكن هنري جيمز رفض المشروع قائلا : " أن عاش المرء حياة هادئة لكنه امتلك عقلا عظيما إذن بالإمكان الكتابة عنه ، وكذلك لو أن المرء كان عنده فكر قليل لكن عنده مغامرات عظيمة ، لكن حينما يفتقر للاثنين : لا مغامرات ولا تاريخ فكري أو روحي أو أي نوع من تاريخ داخلي ، إذن كتابة سيرة حياة هكذا شخص يبات أمرا صعبا ".

قال الرسول كذلك : " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ". لست بصدد تمحيص هذا الحديث الشريف والتغلغل إلى تفسيره ومراميه ، لكني – وهذا المهم بالأمر – أقول بأننا في المجتمع العربي الإسلامي فهمنا الحديث وطبقناه في حياتنا على أساس أن لا نحدَّث أحد أو نبوح لأحد بمشاكلنا دع عنك أسرارنا ، وان المفضوح منا يقع ضحيتنا ويصبح هدف اضطهادنا ، مهما كان ذلك الشخص من أمين وصريح وصادق ، مثل قصة الواعظ في إحدى الحدوتات الشعبية ، حينما صدرت عنه فرقعة لم ينساها الناس حتى بعد خمسين سنة .

على أساس فهمنا لهذا الحديث ضَمُر عندنا أدب السيرة الذاتية وكذلك السيرة ، عدا حينما تكون السيرة تعبّر عن الجوانب الناصعة لبطل الموضوع بأن نمرر الموضوع على عدة مصفيات والنتيجة ماء مقطر لا طعم له ، ولكنا نستطيع أن نكتب سيرة حياة أو نترجم عن اللغات الأجنبية لأناس أجانب إذ لا تضيرنا سير حياتهم مهما كانت مفضوحة ولا نستطيع أن نطالهم ، ولكنها على الأكثر صريحة وأمثلة نوال السعداوي وغادة السمان مفيدة بهذا النقاش . ولا بد هنا من تثبيت الإعجاب بسهيل إدريس الذي في سيرته الذاتية ذكر بصراحة منقطعة النضير مثلية والده .

إذن إذا أراد الواحد منا أن يفتح – حسب تعبير جورج أورويل – خزانه الأسرة وأخرج للملأ أسراره إذن لرُجم وأول راجميه – كما يقول المسيح – آل بيته . سنة 1971 نشر الكاتب الموصلي عمر الطالب مجموعة قصصية بعنوان ضباب الأيام فيها بعض الأمور المكشوفة ليس عن حياته الشخصية أو أسرته إنما عن المجتمع العربي والموصلي بالذات . أثارت المجموعة ضجة وفي حينها وعمر وأنا في الحافلة من باب الطوب بمدينة الموصل إلى الجامعة أخبرني عمر بأنه نتيجة نشره هذا الكتاب قررت عشيرته البراءة منه ، وآل الطالب كما معروف عائلة كبيرة بالموصل وعمر الطالب أستاذ الأدب العربي الحديث أشهر من نار على علم في العراق .

وفي مقابلة تلفزيونية على قناة إن بي سي الذائعة الصيت في الولايات المتحدة الأمريكية ، سأل مقدم البرنامج تنيسي وليامز : " هل أنت حقا مِثليُّ ؟ " ، أجاب وليامز : " أنا لا أتستر على هذه الحقيقة " ، وبعدها كتب احد النقاد معلقاً على كلام وليامز: " إن وليامز بصراحته أثار إعجاب الأمة الأمريكية من الساحل إلى الساحل".

جرت مقابلة وليامز أعلاه في نهاية الستينات ، حيث أصبح البوح بالإسرار الشخصية من الأمور التي أخذت تدريجيا تصبح سمة من سمات المجتمع الغربي ، إذ قبل وليامز كان الروائي أي أم فورستر قد كتب مجموعتي قصص موريس والحياة القادمة ، وكان قد قفل عليهما وذكر في وصيته أن لا تفتحان ولا تنشران إلاّ بعد وفاته ، وهذا ما حدث فعلا بعدما مات فورستر سنة 1971 وكان الكتابان اعترافات صريحة بالمثلية التي مارسها فورستر منذ أيام المدرسة الداخلية وعمره 8 سنين وعبر حياته التي امتدت لأكثر من 90 سنة .

وفي القرن التاسع عشر ، كذلك استعان أدباء الغرب على قضاء حوائجهم بالكتمان ، وهكذا عبّروا عن مكنوناتهم وأسرارهم بشكل تمويهي تلميحي وكان من أبرزهم أوسكار وايلد الذي عبر عن مكنونات روحه المثلية يجعل سالومي بطلة مسرحيته بنفس الاسم تتحدث إلى رأس يوحنا المعمدان المقطوع بأجمل الغزل الذي يمكن أن يوجه إلى رجل ، وهنا كان أوسكار وايلد يعبر عن هذا الغزل المثلي لكنه اتخذ من سالومي قناعا لمكنوناته ودواخله .

وحتى أنت يا شكسبير! في مسرحيته عطيل يعبر شاعر انكلترا الأكبر عن ميوله وممارسته المثلية حين يجعل أياكو يتحدث إلى عطيل كيف انه كان نائما في نفس الغرفة مع كاسيو الذي على أساس هو عشيق ديدمونة زوجة عطيل ويصف أياكو المشهد بكل حماس وشغف فيقول : " إن كاسيو في نومه ومن دون وعي منه مَسَكني في جسمي وهو يمرر يده على جسمي ويتكلم بشبق على أساس إني ديدمونة ". إن شكسبير كما وايلد أراد أن جعل من أياكو قناعا لمثليته . والقائمة طويلة تصل حتى أفلاطون نفسه صاحب المثالية والجمال وفي الأساطير الإغريقية وجود للمثلية الذكورية والأنثوية وحتى بين الآلهة .

ثانيا. محاولات في تأليف سيرة ذاتية

سأم السومري وجوده فأخذ يلعب بالطين وبعد خربشات على ألواح الطين التي صنعها دفعاً للملل اكتشف لعبة مسلية هي الكتابة وتبعتها القراءة ، ومنذ ذلك الحين وعبر الأجيال ولحد الآن ما تزال لعبة السومري تحاول تطويق الأشياء وتعمل على مصالحة الإنسان المصدوم مع قدره . قبل عشر سنوات وقعت على رأسي مصيبة قالوا عني كما الناس عن زوربا " إنه سيجن " ، لكني تخطيتها بروح نيجوية – دستوييفسكية بأن كان في روحي جلجلة ضحكة نيجة وإصرار دستوييفسكي ، وفي الأخير قالوا عني " أنقذه الأدب". نعم مثلما هناك علاج بالأدوية وعلاج بالجراحة وعلاج بالكهرباء هناك علاج بالأدب ، انظر إلى الماركيز دي ساد كيف أنقذته الكتابة وهو في السجن 28 سنة وكان يكتب ويحس بالتواصل واستطاع تطويق الأشياء وهو لم يتصالح مع قدره بل إنما تحداه وهو يقول : " خذوا مني كل شيء : أموالي ، حريتي ، حياتي لكن لا تأخذوا مني أفكاري". وفيما يلي بعض مما ورد في إحدى رسائله إلى زوجته : " تقولين إن طريقة أفكاري لا تعجبك ، أتعتقدين إني اكترث ؟ فقط البلهاء هم الذين يفكرون كما يحلو للآخرين . إن طريقة تفكيري التي تعيبينني عليها هي سلوتي الوحيدة وهي التي تخفف عني عذاب السجن ، وهي التي تعوضني عن مباهج العالم خارج السجن ، وهي بالتالي اعز علي من الحياة نفسها . تخبريني أن المسؤولين على استعداد لإطلاق سراحي من السجن شريطة أن أتبرأ من مبادئي ، إذن والحالة هذه دعينا أنت وأنا نودع بعضنا البعض وداعا أبديا لأني بدلا من أن أتنازل عن مبادئي فإني على استعداد أن أضحى بألف حرية وألف حياة لو كانوا عندي . هذه المبادئ وهذه الميول في الذوق والسلوك أنا أتمسك بها اشد التمسك وكلما أمعن أعدائي في عقابي عليها كلما ازددت إصرارا عليها وتمسكا بها واني أعلن هاهنا أن لا داعي لان يحدثني احد عن الحرية أن كان ثمنها طريقة تفكيري". وبسبب حريته في التعبير مُنع دي ساد من الكتابة وحُرم منها ، فأخذ يكتب على شراشف سريره وحينما اكتشفوه اخذ يكتب على جسده وحين اكتشفوه اخذ يكتب على الحائط بالفضلات .

يعجبني الذين لديهم روح قط : 9 أرواح كلما ماتت واحدة انبعثت أخرى . بالنسبة للأديب المسرحي يوجين أونيل إن عظمة الإنسان هي في تراجيديته وان روعة الحياة هي في كونها ترفد الإنسان بالتراجيديا ، ولولا التراجيديا لما كان للحياة البشرية طعم : التراجيديا هي ملح الحياة التي من دونها لأصبحت الحياة من دون طعم . لا يصنع الأبطال والعظماء من النوم على وسائد الريش وأكل لحمة قوزي دوش وكوكا كولا مثلجة من الزجاجة ، إنما يصنعهم النعل المهبودة على رؤوسهم . قال القديس لورنس للقائمين على حرقه : " يا إخوان قلبوني إذ إني انشويت جيدا على هذا الجانب". وجدت في الكلمات تطويق للوجود وان في روحي ( ولو بجسدي لست كذلك ) قوة تطوق الحياة كما في لوحة وليم بليك " الملاك ميخائيل يطوق إبليس" واني أؤمن بالفاعلية العلاجية للأدب ليس للمصالحة مع القدر لأني أنا لا أريدها لكن لمواجهته . في الحديث عن الأدب العراقي القديم أود الإشارة إلى عزرا الذي لعب دورا مباشرا أو غير مباشر ، عن عمد أو عن غير عمد في التعتيم على الأدب العراقي القديم ، أضيف قائلا هنا انه بعد أن سمح الإمبراطور الاخميني كورش بعودة العبرانيين إلى فلسطين عاد القليل منهم ومن جملتهم عزرا الذي عاد من اجل تدوين الأدبيات العبرانية ثم ما لبث بعد أن تم ذلك أن عاد إلى منطقته ميسان ليموت ويدفن في قرية العزير ولعل اسمها مشتق من اسمه عزير : عزرا أو بالعكس ، كانت عاصمة المندائيين (الصابئة) هي ميسانو اسمها من لغتهم : مي بمعنى ماء وشان (التي بسبب عوامل التعرية اللغوية أصبحت سان ) بمعنى القصى والبعد لعله بسبب وجودها في منطقة نائية بالجنوب .

تقول إحدى الشخصيات في مسرحية شكسبير ترويلوس وكرسيدا وهي تصف كرسيدا : " انظر انظر : إن عينيها تتحدثان ، وجهها يتحدث حتى قدمها تتحدث "، واني أقول واصفا حضارات العراق : " انظر انظر : في مدينة العمارة حضارة ، في الناصرية حضارة ، في الحلة حضارة ، في الموصل حضارة " . في مدينة العمارة اخترع النبي إدريس الألف باء ومن ثم ظهر أول معجم لغوي في العالم هناك ؛ في الناصرية هناك سومر وأور وأكد وشريعة حمورابي أول نص قانوني في العالم ؛ في الحلة هناك جنائن بابل المعلقة ، وبالموصل مخطوطة ملحمة كلكامش كما وصلتنا ، علاوة على إنشاء أول مكتبة بالعالم كان العراقي يستعير منها الألواح الطينية لمطالعتها ، وكذلك النهضة العلمية في الفلك والرياضيات والطب والهندسة ، والأساطير العراقية أثرت تأثيرا مباشرا وعميقا بالتلمود والتوراة والإنجيل وفي الأساطير الإغريقية كذلك .

في الحقيقة أنا شبعت من التجوال والطواف والزيارات والخروج ولقد أصبحت شخصية بيتية وأنا سعيد بذلك وماعدا خروجي للعمل فأنا لا أخرج من البيت إلا لقضاء الشغلات الضرورية التي تتطلب حضوري وان هذا الاعتكاف اللذيذ الحلو يفسح لي المجال لمراجعة تاريخي الشخصي ومسيرة حياتي وأنا الآن في هذا الموقع استطيع أن احكم على الأشياء وأقّيمها بشكل هادئ موضوعي دقيق ، فعندما يكون المرء في خضم الإحداث ومعترك الحياة تكون أحكامه شخصية ذاتية مثل المدرسة التعبيرية أما حين ينسلخ عن الإحداث فهو يرى الأمور بشكل موضوعي مثل المدرسة الطبيعية ، ومن أسرار عظمة وخلد شكسبير أنه كان موضوعيا فيزياويا لا يتفاعل كيمياويا مع الأحداث والأشخاص بينما الشعراء الرومنتيكيين والمحدثين محدودي ومؤقتي العظمة مقارنة بشكسبير لأنهم يحكمون على الأمور بشكل ذاتي شخصي ويتفاعلون معها بشكل كيمياوي . وهكذا تراني قد تحولت من عيش الحياة كيمياويا إلى عيشها فيزياويا ، ومن الحقائق العلمية التي درسناها في الثانوية هي أن الفرق بين الكيمياء والفيزياء أن في الكيمياء تنصهر العناصر مع بعضها بشكل يستحيل إعادتها إلى حالتها قبل التفاعل ، بينما الفيزياء هي مزيج العناصر بشكل يمكن إعادتها إلى حالتها قبل المزج ، وبما انه لا توجد حقيقة مطلقة ثابتة فعليه تكون الفيزياء أفضل من الكيمياء . لا يعني هذا التذبذب في المواقف إنما يعني التأقلم والتكيف والتطور والتفتح وان من خلته عدو مبين إذ هو صديق حميم ، وكما يقول ايسايا برلين فيلسوف وأستاذ بجامعة أكسفورد " العظمة هي المقدرة على تحويل التناقض إلى انسجام ". وهاهنا هذا المثل التطبيقي ، بمسرحية ت.س. اليوت جريمة قتل في الكاتدرائية : يقوم ثلاثة من فرسان الملك هنري الثاني بقتل توماس بيكت كبير الرهبان فيأخذ الرهبان بالبكاء و النحيب إلاّ أن احدهم يطلع عليهم بتخريجة تقلب حزنهم إلى فرح إذ يقول لهم : " كفوا عن النحيب والحزن إذ بمقتل بيكت أهدانا الله قديسا جديدا ".

لو بقى آدم وحواء في الجنة ولم يسقطا منها لما تمتعا بحقيقة كونهما في الجنة لكن سقوطهما إلى الأرض هو الذي جعلهما يدركان معنى الجنة ، فهما كانا مثل المرتوي لا يحس بقيمة الماء أو مثل الشبعان لا يعرف لذة الأكل أو مثل النائم لا يعي بلذة الراحة . إذن غلطة وطرد آدم من الجنة إنما هي مسألة أن لم تكن قد حدثت لابد وان نفعلها ، أترى إلى أي درجة من التناغم يمكن أن نوجد ! واطمح أن أصل درجة التناغم لدى الفيلسوف الألماني نيتجه ( المولود قبلي بـ 99 سنة و 11 شهر في 15/10/1844) في كتابه هكذا تكلم زادشت حيث يعيش في كهف في انسجام تام : زرادشت مع أفعى ونسر فلا الأفعى تلدغ البشر ولا النسر يأكل الأفعى ، على العكس يأخذ النسر الأفعى في طيرانه وهي ملتفة حول عنقه التفاف الحبيب وفي كل فجر يستيقظ الثلاثة لاستقبال شروق الشمس ويقول زرادشت مخاطبا الشمس : " أيها الكوكب العظيم ، ما عسى أن تكون سعادتك لو لم يكن هناك من تشرق لأجلهم " . الله تعالى يسعد بوجودنا وهو خلقنا وخلق لخاطرنا مليار مليار نجمة فلا بد نحن مهمون .

يعيش الشخص المثقف الحياة بمفاهيم وتطلعات واهتمامات فيها الكثير من المتعة الذهنية والفكرية وكما يقول الشاعر ويردزويرث : " الشاعر هو إنسان يعيش معنا في الأرض بجسده لكنه بروحه هو في الجنة ". وتقول الكاتبة فرجينيا أن يوم القيامة لا تهتم ملائكة الجنة بالمثقفين إذ تقول الملائكة لهم : " أنتم بكتبكم عشتم حياة الجنة في الأرض". إن حبّابي الكتب يفضلون كتبهم على الأكل والشرب والتلفزيون والطلعات وكل شيء . حين سافرنا في سنة 1995 أودعت صندوق كبير (تنك) عند أمي فيه كتبي ، وأمّنتها قائلا : " إن صارت نهيبة وجاء النهّابة وخيروك أن تعطيهم إما الصندوق أو ابني علي ( الذي بقي في الموصل) أعطيهم علي ." وأحد طلبتي بجامعة الموصل سنة 1975 والذي حصل على الدكتوراه بالأدب الانكليزي من الولايات المتحدة عاد للموصل وأصبح زميلا في القسم ، قال ذات مرة : " الجنة ! هي أن تكون جالسا على كرسي سرح وبيدك كتاب تقرأه ".

كان الدكتور جونسن وهو أشهر أديب في القرن الثامن عشر محبا للكتب ولا يستطيع بدونها ، ذهب للخياط يفصِّل عنده معطف له جيبان يتسع كل منهما لكتاب بحجم قاموس وفعلا حين ذهب جونسن للخياط وحمل معه قاموسا قال للخياط أن يُفَصّل الجيوب حسب حجم القاموس . ومرة كان جونسن مدعوا إلى عشاء في بيت أصدقائه ، حين صبوا العشاء لم يكن جونسن هناك مع انه كان رجلا أكولا وبحثوا عنه فوجدوه في مكتبة البيت ( وهو في الواقع قصر لأحد الأثرياء ) وكان ممسكا بكتاب وقد قربه من عينيه ( لأنه كان ضعيف البصر ) ومن شدة قرب الكتاب من عينيه بدت أهداب عينيه كأنها فرشاة تمسح صفحات الكتاب .

يصيب نفسي التيبّس جراء البعد عن الأصدقاء والأحبة وهذه اللحظة عندي جلسة شرب شاي في مقهى شعبي بشارع حلب بالموصل تسوى البكادلي والشانزيليزيه وساحة الصديق باسل وسنترال بارك وأني أحس برعشة شعرية حين أتحدث إلى صديق قديم أكثر مما لو جلست أقرأ المتنبي وويردزويرث وملتن ومن لف لفهم ، ولكن السؤال هنا ما الشعر؟ في نظري الشعر هو من الشعور في اللغة العربية وهي أنقى وأصفى لغات العالم في الاشتقاق ومرجعية أصول المعاني ، والشعور هذا يثار بشكل لطيف جيد بعاملين (1) شعر القصائد : المتنبي شكسبير دانتي كوته ... الخ و(2) شعر اللاقصائد وهو الشعور الذي يحس به المرء في جلسة شرب شاي بشارع حلب مع الأحبة ، والشاعر ت س اليوت حين أراد إحياء شعر القصائد في مسرحياته لم ينجح كما نجح شو وبيكت وجيخوف في استخدامهم النثر العادي المحمل بشعر مخصَّب . عد واقرأ الحوار الطويل ( أطول خطاب في المسرحية ) في مسرحية برنارد شو القديسة جون وستجده ألذ واشعر من أي حوار في كاتدرائية اليوت ، ولو إنني بشكل شخصي عندي أروع قطعة حوار في هذه المسرحية هي خطاب المغري الرابع الذي حين يظهر لبيكت يقول له بيكت : " لم أكن أتوقعك " فيرد عليه المغري قائلا : " ولهذا أنا هنا ، إذ إني أتواجد حين لا احد يتوقع قدومي". وحتى اليوت قال فيما بعد : " حين كنت اكتب خطابات الفرسان آخر المسرحية كنت تحت تأثير شو في القديسة جون".

أعود وأقول إني أفضل الشعر خارج القصائد ، الشعر الذي أجده في حوارات شخصيات تينسي وليامز أكثر مما في مناجاة هاملت :" توبي أورنوت توبي" ...الخ . وحتى أني أجد الشعر في صمت وسكوت الغابات بينما القبرة تغرد . بكلام آخر أريد إن أقول ليس بالكلمات وحدها يوجد الشعر ، الله عادل في قسمته فهو حينما خلقنا أعطى لبعضنا شعر القصائد امرؤ ألقيس أبو العلاء شيلر بوشكين ماياكوفسكي حمزاتوف ناظم حكمت لاركن ... الخ ، إلا أنه أعطانا جميعا شعر اللاقصائد ، لان الله يعرف أن النفس البشرية لا يمكن أن تحيا من دون شعر فهو نَثَر الشعر اللاقصائدي على كل نفس : كيف تعتقد كانت ستعيش جدتي وجدتك وهن من دون شعر القصائد ؟ كن سيتيبسن ؟ على العكس ، بفضل شعر اللاقصائد عاشت هؤلاء العجائز اللاتي حتى لم يعرفن ما هو الشعر ، عشن حياة حافلة طويلة عريضة واستطيع القول سعيدة ، ونحن في القرن الحادي والعشرين في كافة أنحاء العالم محرمون من هكذا سعادة مع أننا غاطسون في شعر القصائد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق