هيو كينر استاذ جامعي مرموق بجامعة جورجيا. كتب عنه احد طلبته يتذكره:
هناك صورة واحدة لاستاذي هيو كينر تعود الي المرة تلو الاخرى حينما اتذكره. ههو جالس بمكتبه و هو غارق في التفكير و هو ياكل تفاحة. التقطت ذاكرتي هذه الصورة التي لن تنمحي، حينما مررت احد الايام من امام باب مكتبه. و انا مندهش لحد ما لماذا التصقت هذه الصورة في ذاكرتي، لكن من ناحية اخرى اتصور ان هناك ثمة امر له علاقة ببساطة و عفوية التفاحة التي هي بمثابة نقيض تام لسعة و رحابة و ثراء و تعقد افكار و معلومات الاستاذ الكبير. عرفت الاستاذ هيو كينر اول ما عرفته عن طريق كتابه "صموئيل بيكت" (1961) حينما كنت احضر اطروحتي الجامعية التي كان موضوعها رواية اللامعقول و التي فيها كنت احاول تطبيق اطروحات و افكار استاذ جامعي كبير اخر و هو مارتن ايسلن في كتابه الفذ "مسرح اللامعقول" (ايضا 1961).
كنت بوقتها اجابه صعوبة في فهم كاتب اسمه صموئيل بيكت، و هكذا تراني اتجهت لقراءة كتاب الاستاذ هيو كينر الذي يقول في مستهله انه الف هذا الكتاب ليس لشرح اعمال بيكت انما لمساعدة القارئ على التفكير بها."
بعد تخرجي من الجامعة، و قد اصبحت استاذا جامعيا بجامعة كاليفورنيا-لوس انجلس، ذهبت لزيارة استاذي القديم و الاول
هيو كينر بمكتبه بجامعة جورجيا و دارت المحادثة هكذا:
الطالب السابق: استاذي الجليل، انت ابن استاذ كبير في الرياضيات، ما جعلك تتخصص بالادب الحديث؟
كينر: وجدت علاقة وثيقة بين الرياضيات و كتابات صموئيل بيكت و هو احد اعمدة الادب الحديث. استطيع القول ان كتابات بيكت كانت تمهد لاختراع الكومبيوتر. حينما قرات جملة عند بيكت تقول: "ينبغي ان يكون هناك ثلاثة توزيعات اخرى للجوارب، و ان هذا التوزيع الذي استقر الراي عليه يمكن احالته الى العناصر و المسببات المتبعة لحد الان. يدركك الصمم و يتبعه البكم و انت في لجة عملية توزيع ثلاثة ازواج من الجوارب و قد تمزق معظمها و انت لما تطأ عتبة الدار" , "قلت يا الهي، يتوجب علي ان اذهب والتقيه." لم اكن اعرف بيكت سابقا سواء معرفة شخصية ام عن طريق مؤلفاته. في العطلة السنوية، شددت الرحال على شاكلة ابناء عصر النهضة في رحلتهم الكبرى من انكلترا الى اوروبا و التي احيانا تشمل القدس، و وصلت باريس لمقابلة صموئيل بيكت المقيم هناك بعد ان غادر مدينته دبلن بايرلندة. احتفى بي بيكت و كان مضيافا لطيف المعشر، وديع الكلام و بسيط الهندام. و طبعا لم اذكر أمامه كلمة "لا معقول" التي اقترنت باعماله الادبية، سيما اني لم اجد ما ينم عن جانب "لا معقول" في الرجل، فلقد كان منطقيا في افكاره و حلوا في محادثته. آخر مرة التقيت ببيكت كانت قبل وفاته ببضعة اشهر في 1989 و كنا على اتصال دائم وثيق طوال حياته، و اني مندهش بظهور ثلاث سير حياة عن بيكت و لا توجد اشارة واحدة الى في اي منها.
الطالب السابق: عماذا تحدثتما؟
كينر: عن امور عديدة، من حرب الجزائر، مرورا باضرابات الطلبة في فرنسا، ظاهرة جيفارا، و انتهاء بالحديث عن الدراجة الهوائية التي يملكها وات بطل رواية بيكت التي تحمل الاسم نفسه، و عرجنا على مسرحيته "لعبة النهاية" و بالذات عن صندوقي القمامة في المسرحية اللذين اصبحا من الرموز الملازمة لاعمال بيكت الادبية، مثل ساحرات مكبث و شبح هاملت و منديل عطيل لدى شكسبير. في لجة حديثي الحميم مع بيكت ولجت عالما بعيدا جدا عن عالمنا الارضي، لدرجة حين غادرت منزله فقدت سبيلي للخروج الى الشارع فقد اتجهت الى البوابة الخلفية للمنزل، و كانما هي اشارة قدرية – ماذا ارى هناك في الممشى الخلفي للمنزل؟ --صندوق قمامة منزل بيكت، و دراجة هوائية عاطلة تعثرت بها وانا اعود ادراجي متلمسا الطريق الى الشارع العام.
* * *
في اواخر الاربيعينات كان هيو كينز طالبا بجامعة تورونتو الكندية بعد اطروحته عن روايات جيمز جويس، لكنه حين سمع بقصائد عزرا باوند، تحول فورا من الروائي الايرلندي الى الشاعر الامريكي. كان باوند بتلك الفترة رهن الاعتقال في مصحة القديسة اليزابث للمجرمين المرضى عقليا بواشنطن العاصمة. ابان سني الحرب العالمية الثانية كان عزرا باوند يذيع من راديو روما البيانات المناوئة لبلده امريكا و للحلفاء، و كان قد اعتنق الفاشية و اصبح صديقا مقربا للزعيم الايطالي الفاشي موصليني، و كثيرا ما كانا يتناولان العشاء سوية على انغام الموسيقار الايطالي فيفالدي صاحب "الفصول الاربعة". و هكذا عندما سقطت روما و تم اعدام موصيليني، اصبح باوند في موقف رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد غداة سقوط بغداد في 14 تموز/يوليو 1958، و هو ينشد مسلكا للنجاة، و مثل نوري السعيد الذي لجأ عند بيت جماعة من اصدقائه طلبا للعون، توجه باوند الى بيت عائلة من اصدقائه الذين زودوه بمعطف و حذاء خشن و بضع بيضات مسلوقات في زمن كانت البيضة تسوي وزنها ذهبا. سار باوند باتجاه الحدود شمالا و قطع عدة ايام في السير و التخفي حتى ان اصابه الملل فذهب و اعلن عن هويته الى جندي امريكي مرابط في ايطاليا، و لم يعرف هذا الجندي ان المتحدث اليه هو الشخص الذي قد قال عنه الناقد الشهير ت س اليوت: "ان كان هناك اية عظمة في الشعر الانكليزي الحديث فالفضل يعود للسيد عزرا باوند". علاوة على ذلك كان اليوت ينظر الى باوند كاستاذه، و اليوت اهدى قصيدته العصماء "الارض الخراب" بهذه الكلمات " الى عزرا باوند، الاسطى الاعظم."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق