ثانيا : الأدبــــــاء
عــــزرا بـــاونـــد
في خريف سنة 1962 كان روبرت ستيرن الأستاذ الجامعي يتمتع بسنة تفرغ علمي في إحدى الجامعات الايطالية لتدريس الأدب الانكليزي على طلبتها ، وبطريق الصدفة اكتشف تواجد الشاعر عزرا باوند (1885 – 1972) وفيما يلي تفاصيل ما حدث :
بعد حصولي على عنوان سكن باوند ذهبت للبحث عنه . لما وصلت المنطقة ، أخذت اقرع أجراس البيوت وأنا اسأل إن كان هناك أمريكي كبير السن يدعي عزرا باوند . في الأخير قالوا لي انه يسكن في بيت على الناصية . ذهبت وقرعت الجرس وإذا بسيدة تطل علي من الشرفة (تبين فيما بعد أنها اولكا رج خليلة باوند) . بعد أن عرَّفتها بنفسي أخبرتها بأن هدف زيارتي هو بسبب إعجابي بالشاعر الكبير . نزلت من الشرفة وفتحت لي الباب وأخذتني إلى غرفة في الطابق العلوي وجلست على كرسي الخيزران الصيني . كان باوند يرتدي قميصا ثخينا قديما وهو جالس في الفراش محاط بمجاميع من الكتب من جملتها بعض الروايات . كان حلوا ولطيفا ولكن كانت عيناه تنمان عن ثعلب قديم . ران صمت استغرق دقائق بدت طويلة . سألته فيما إن كان لا يزال يكتب ، أجابني انه يكتب بيت شعر واحد في الشهر . حينما سألته ماذا يقرأ هذه الأيام أجاب انه يقرأ فردوس دانتي . لم تستغرق الزيارة أكثر من عشرين دقيقة واستأذنت بالانصراف . كان باوند مسرعا بمد يده للمصافحة وداعا مع ابتسامة ليس من باب اللطف والحفاوة لكن بفرحة التخلص مني . ولكن السيدة رج دعتني لتناول القهوة بعد أسبوع .
وهكذا بدأت سلسلة زياراتي الأسبوعية لبيت عزرا باوند . كان في بعض المرات ينزل باوند نفسه ليفتح لي الباب ويدخلني البيت . وأخذت مدة الزيارات تطول والأحاديث تكثُر. قال انه لم يكن لديه الفلوس الكافية لزيارة اليونان ومصر وهما بلدان طالما حلم بزيارتهما ، فأخبرته بأني سأجمع له المال الكافي لذلك وفعلا زار اليونان بعد سنة .
وخارج المنزل كنت أصادفه مع اولكا وهما يسيران متأبطين ذراع بعضهما البعض . أحيانا كنا نجلس في مطعم لتناول الغداء وحين سخن الجو كنا نتناول المثلجات في المقاهي . على العموم كان مشّاءً جيداً ونشطاً وحين كان يسلّم علي الناس أو يرد التحية كان بغاية الدفء ، وهذا ما جعلني أتذكر قلبه الإنساني الحنون في مساعدة الأدباء الناشئين في الماضي قبل 50 و 60 سنة مضت وخاصة دوره في نشر رواية جيمز جويس يوليسيز وقصائد روبرت فروست ومن ثم مراجعته وتنقيحه لقصيدة ت.س. اليوت الأرض الخراب . جعلني هذا الجانب فيه أسامحه على الجانب الآخر في سلوكه حينما أصبح فاشياً وصادق موسوليني واخذ يذيع خطابات مناوئة لبلده أمريكا إبان الحرب العالمية الثانية .
وفي إحدى المرات زارتنا ماري ابنة باوند من اولكا ومعها زميل ايطالي من أصل روسي اسمه جيا نفرانكو ايفانجيك . كان باوند وايفانجيك من الضرب الصامت وكان بإمكانهما الجلوس فترات طويلة من دون تبادل كلمة واحدة من دون الإحساس بالحرج. لم استطع تحمل هذا الحرج ولم تستطع كذلك اولكا وماري . وهكذا كنا نحن الثلاثة نقوم بمهمة المحادثة . في إحدى المرات سألتني ماري عن معنى كلمة فأشّرتُ إلى والدها قائلاً لها بأنه هو المرجع اللغوي فتأففت قائلة بأنها إذن لن تفهم أي معنى . ألقت هذه الحادثة الصغيرة الضوء على طبيعة العلاقات داخل أسرة باوند. كان باوند متزوجاً من دورثي شكسبير وهي لم تكن تسكن معه مع إنهما لم يكونا مطلقين وكان لباوند ابناً من دورثي اسماه عمر تيمناً بالشاعر عمر الخيام وكان عمر بمنصب أستاذ الأدب العربي بجامعة بوسطن ومن ثم أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة كمبرج .
وحين كان باوند في مزاج للمحادثة كنا نناقش أخبار الأدب والأدباء وفي إحدى المرات جاء ذكر همنكواي الذي كان قد انتحر في السنة السابقة . كان الحادث مؤلما لباوند الذي لم يصدق انه انتحر لأنه حسب رأي باوند كان كاثوليكيا . وكان همنكواي احد مريدي باوند ، وكذلك كان اليوت الذي أجمل مكانه باوند الأدبية حينما قال : " لو أن هناك أية عظمة أو أهمية للشعر الانكليزي الحديث فالفضل بذلك يعود لعزرا باوند" .
كيــــرتــرود ستـــاين
ولدت كيرترود ستاين (1874 – 1946) الأديبة الأمريكية في ولاية بنسلفانيا ونشأت في فيينا وباريس وسان فرانسسكو ودرست علم النفس والطب في الجامعات الأمريكية ، لكنها استقرت في باريس حيث كانت تختلط بالكتاب والفنانين وطورت لنفسها أفكارا حديثة بشأن الشكل الأدبي . كانت تعيش مع رفيقة عمرها اليس توكلاس . قام بمقابلتها جون هايد بريسن وهو كاتب ومؤرخ محلي .
يقول بريسن : ذهبتُ ذلك الصباح لمقابلة كيرترود ستاين ولقد قامت صديقتها ومديرة أعمالها باتخاذ كافة الترتيبات لإجراء المقابلة وبعد دخولي في الشقة التي كانتا تسكنان فيها ، جلستُ وأقبلت ستاين مرحبة بي .
كانت تتحدث بتلقائية وصوت رخيم وحين كانت تطرح أفكارها كانت شديدة الثقة بنفسها ولو أنها أحيانا كانت غامضة في مراميها . تبين لي فيما بعد أن سبب هذا الغموض أنها لديها المقدرة على استشفاف بعض الأشياء الخفية داخل النفس البشرية التي لا يمكن للشخص العادي إدراكها لكنها تأتي بشكل ومضات لمن لديهم المقدرة على الوصول إلى تجليات روحية خاصة . ولقد كانت محادثتنا تلقائية وحرة منذ البداية وحتى النهاية ولم نحس بأنني قد جئت من أجل حديث للصحافة . والشيء نفسه يصدق على هندامها ومظهرها ، فلقد كانت مرتدية ملابسها العادية وكان شعرها الرمادي القصير الذي لم تمرر عليه المشط ينم عن عفويتها . والحقيقة يبدو أنها كانت قد مررت أصابعها على شعرها لتمسّده لتجعله يبدو على هيئة تسريحة القياصرة . ومن ناحية أخرى كانت ذات نظرات حادة ثاقبة من دون أن تركز عينيها على شيء معين .
تحدثت ستاين قائلة : " الكتابة هي عملية تلقائية فحين يجلس الكاتب ليكتب لا يفكر بالنتائج ، لكنه مجرد يحس بعملية الإبداع أي بكلام آخر يكون همه المسافة بين قلمه والصفحة التي يكتب عليها في لحظة الكتابة ، ليس قبلها ولا بعدها ، والأفكار تأتي لحظة الكتابة وان لم تأت فمن العبث البحث عنها . صحيح أنها هناك قبل عملية الكتابة ، لكنها عادة تكون بشكل ضبابي ، وكتابتها على الصفحة هي بمثابة انقشاع الضباب وخروج الأفكار إلى النور. وعلاوة على ذلك فإن الكاتب لا يخترع الشكل الذي يكتب فيه ، إذ أن الشكل يأتي بعفوية ومن ذاته ، وهكذا إن سيطر الشكل على الكاتب وأخذه في مجالات ومدارات مختلفة فليكن ، وما على الكاتب إلا الاستمرار وعدم التدخل . الكاتب فقط يعرف ماذا يفعل ولكنه لا يعرف كيف يفعل ، عليه أن يسلّم القيادة بيد الشكل . بيد أن العديد من الكتاب يتدخلون في توجيه عبقرياتهم وهم بذلك يتوقفون عن الإبداع الحقيقي ، فهم يصبحون كُتّابا بالحرفة وليس مبدعين بالسليقة وهكذا فمتى قال احدهم : " أنا روائي " فقد حكم على نفسه بأنه إسكافي أدب ، وهذا ما حدث لسكوت فيتز جيرالد ، إذ انه بعد أن نشر كاتسبي العظيم أحس بأنه روائي كبير وهكذا انتهت عبقريته . والشيء نفسه يصدق على همنكواي فقد انتهى إبداعه سنة 1925 حينما نشر أولى مجموعاته القصصية وبعدها للأسف أحس انه روائي فأنقلب إلى اسكافي أدب . حينما تعرفت على همنكواي كانت لديه موهبة في تحسس المشاعر والتعبير عنها بشكل صادق ورائع وهذا ما نجده في مجموعته الأولى من القصص القصيرة ، حيث كان أديبا مبدعا أما في ما تلا ذلك فلقد أصبح اسكافيا أدبيا . على الكاتب أن يعرف انه يكتب بجدية وان عمله يختلف عن عمل بائع متجول . وأعود إلى مسألة الشكل لأقول انه متى ما اكتشف الكاتب الشكل الذي تميل عبقريته إليه فإن الشكل يصبح هو الكاتب نفسه ، وهو ذا السبب أن جيمز بوزويل هو أعظم كاتب سيرة حياة عندما كتب سيرة حياة الدكتور جونسن بعبقرية فذة لأنه استطاع أن يجعل جونسن يتفوه بكلمات هو لم يقلها لكنه لأنه فهم شكل حديثه وكتاباته ، نجح في إعطاء صورة حية رائعة عن جونسن . المهم في المسألة هو عدم التفكير بالشكل ، لكن جعل الشكل يأتي من تلقاء نفسه ، وهذا هو احد أسرار الأدب ".
نـــابــوكــوف
ولد فلاديمير نابوكوف (1899 -1977) الروائي الأمريكي في مدينة بطرسبرك في روسيا ، وهو ينحدر من أسرة ارستقراطية كانت قد غادرت روسيا إبان الثورة البلشفية عام 1919 . درس نابوكوف الأدب الفرنسي والأدب الروسي بجامعة كمبرج بانكلترة ، ثم عاش في برلين وانتقل إلى باريس إلى أن هاجر إلى الولايات المتحدة واكتسب الجنسية الأمريكية ومن أشهر رواياته لوليتا سنة 1959 .
استقر به المقام في سويسرا حيث مات . قامت بإجراء هذه المقابلة بنيو لوبي جليات وهي مراسلة لمجلة فوك وكان زوجها الثاني الأديب المسرحي الانكليزي الشهير جون اوزبورن .
" هل الملكة حامل ؟ " قال نابوكوف متسائلاً .
" لا اعتقد " ، أجبته .
" حينما شاهدتها على التلفزيون وهي تتفرج على مباراة كرة القدم لكأس العالم كانت بين الفينة والأخرى تمسّد بطنها " قام بحركة تمسيد على بطنه .
" أنها دائما تفعل ذلك " قلت له .
" آه ، حقاً : أنها حركة ملوكية ، دائماً حامل بطفل ، بوريث للعرش" قال ضاحكاً وهو بمنتهى الأنس والانشراح .
تقابلنا بمنطقة نائية في سويسرا . تحدثت إليه عبر هاتف الفندق وكانت طريقة كلامي مثل طريقة كلام إحدى الشخصيات في روايات شيرلوك هولمز . ولما كنت اعتقد انه لن يعرفني بطريقة الكلام هذه ، قلت له إني ذات شعر احمر وذلك كي يتعرف علي في بهو الفندق ، وهو من ناحيته قال انه سيكون حاملاً بيده كتاب تحدثي يا ذكريات والذي هو سيرته الذاتية .
لفرط دهشتي استطاع أن يكتشف خصوصية وفرادة طريقتي في الكلام ، ولا عجب ! فلقد كان والده احد معارف مؤلف شيرلوك هولمز وهو الكاتب السير آرثر كونان دويل . لدى نابوكوف الرغبة الجامحة لأي كاتب لمعرفة دقائق تفاصيل المظاهر كما وله إذن حساسة في تمييز اللهجات واللغات . كان قد اقلع عن التحدث باللغة الروسية التي كان يتحدث بها بطلاقة وبلاغة وفصاحة والتي كتب بها روايته الأولى واخذ يتحدث بالانكليزية التي تعلمها من مربيته ، وكتب رواياته الأخرى بلغة انكليزية لذيذة مشاكسة تدغدغ حواس الانكليز أكثر من الكتاب الانكليز وتصل إلى أعماق في النفس لا يصلها الكتاب الانكليز .
يبدو لي أن هذا هو السبب في انه يكتب عن الحب بشكل أفضل من الكتاب الانكليز أنفسهم إذ أن مرارة النفي تحمل لسعة القيام بسرقة ومن ثم حلاوة الإحساس بالحميمية التي يحسها اللصوص بعد خروجهم سلامات من مأزق .
كان يتمتع بروح دعابة روسية خالصة ، وحين كانت تمسك تلابيبه ويعجز عن الخروج عن سيطرتها يصبح منظره رائعاً للغاية ، وهو في الحقيقة يحمل الكثير من صفات ومزايا المهرج . وحين تجتاحه نوبة ضحك ، تراه يهتز على الكرسي ويبدو كأنه على وشك السقوط أو كسر الكرسي . وهو شخص سهل التعامل ويطلق الإحكام على الناس والأشياء بعفوية وسرعة ، فمثلاً حينما سألته عن رأيه بالأديب بوريس باسترناك ، أجاب وكأنه يعطي رأيه بوجبة طعام : " إن الدكتور زيفاكو هي رواية مزيفة ، مثخنة بالميلودراما وسيئة التأليف ، وهي غير صادقة مع التاريخ ولا مع الفن وشخصياتها دُمى ، لكن باسترناك شاعر مجيد ، وكمترجم لشكسبير فهو لا يستحق الثناء ، وفقط الذي يجهلون اللغة الروسية هم الذين يعجبون بترجمانه لشكسبير".
ثم جاءت زوجته وجلست معنا وطلبنا الشاي بالليمون وكان حينما يريد أن يستشهد ببيت شعر أو مقولة من كاتب كانت زوجته هي التي تأتي بهذه الاستشهادات وكأن ذاكرتها تعمل مثل ذاكرة حاسوب . ثم تحدث عن هوايته الغريبة نوعا ما وهي صيد الفراشات وقال :" إن الناس يحملون ذكريات عن مدينة لوس أنجلس على مبانيها ومسارحها وشوارعها وعلى هوليوود التي تقع قربها لكني احن إلى لوس أنجلس على غاباتها المليئة بأعداد غفيرة وأنواع شتى وأجناس متعددة من الفراشات . حين كنت اذهب عصراً لممارسة هوايتي المفضلة كنت أعيش ألذ ساعات حياتي . بطبيعة الحال ، ما عدا الساعات التي تكون فيها معي حبيبتي فيرا ". قال ذلك وهو يتبادل النظر مع زوجته فيرا وهو يبتسم ابتسامة عريضة رائعة .
تينيســــي وليـــامـــز
مقابلة صحفية أجراها ريكس ريد مراسل صحيفة أسكواير .
" كنت مريضاً في الآونة الأخيرة يا حبيبي". قال تينيسي وليامز وهو يجلس تحت شمعدان وقد ثبت وردة عباد الشمس على جهة سترته وقد أطلق له لحية . كان قد انتهى لتوه من تناول غداءه في مطعم أنطوان . كان يأكل قواقع روكفيلر ويشرب النبيذ الأبيض المبرد ويتحدث عن الحياة . لو كان هناك تمساح في مستنقع يتكلم ، فسوف يكون يشبه تينيسي وليامز إذ كان لسانه مطلياً بشراب الرم ويخرج ويدخل متلاطماً وهو يلامس شنب صاحبه مثل لسان عضاءة وردية اللون . كان صوته يتمايل كدخان منبعث من سيكار في غرفة بلا تهوية . ومن ثم على حين غرة ، يطلق ضحكة حادة مثل صرخة ببغاء بري جريح وكانت يداه ترفرفان مثل طائر يحتضر في مزرعة دواجن مهجورة . كان الفرح الظاهري يخفى تحته ترحاً تراجيدياً ، ففي سن الستين ، يجلس أشهر كاتب مسرحي في العالم على شفا حفرة من الانهيار ، وهو يقاتل كنمر ويتكلم كشاعر: "تحاول الكواسر أن تنقر عيني ولساني وعقلي ، ولكنها لن تفلح في النيل من قلبي " .
كان مريضاً طوال حياته ، وبعد إصابته بالدفتيريا اخذ يعاني من مرض كلوي دائم ، كما وانه أصيب بشلل استمر عدة سنوات وأصيب بأول انهيار عصبي حينما كان في الثالثة والعشرين من عمره . وفي السنوات العشر الأخيرة أصبحت جلسات سكره وتناوله المخدرات مادة دسمة للصحافة . في سنة 1969 انتهى الأمر به في مصح للأمراض النفسية ،" كنت خارج عقلي يا حبيبي ، لم اعد استطع أن أتذكر كم حبة تناولت ، ولا كمية الكحول التي بها أنزلتها . نهضت من النوم عند الثانية فجرا وأخذت اصب على نفسي القهوة الثقيلة ، وحين وعيت على نفسي وجدت أخي داكن وكان قد أودعني في المصح الذي فيه أصابتني ثلاث حالات تشنج ونوبتان قلبيتان . تلقيت معاملة بغاية القسوة . إن النوم هو حاجة ضرورية بالنسبة لي ، يساعدني على العمل . تكفيني أربع ساعات ولكني أدمنت على الحبوب المنومة لأنني لا استطيع الحصول على كفايتي من النوم . في المصح كانوا يمنعون علي النوم لمدة أربعة أيام بلياليها . فقدت من وزني خمسة عشر كيلوغراما وأوشكت أموت . لكنني الآن قد تعافيت ، وإنني حاليا مبتعد عن المشروب " .
" هل أنت خائف من الموت ؟ " سألت .
يحدق في القشرة الداخلية لقوقعة كان قد فرغ من تناولها : " اعتقد إنني طالما فكرت به ، وله حضور في مسرحياتي بشكل دائم . كانت تمضي علي ليال كنت أخاف فيها أن اذهب إلى الفراش . كنت في السنين القليلة الماضية أفكر كثيرا بالانتحار. كنت في الستينات أعيش على هامش الحياة إذ كنت عائشاً تحت تأثير الحبوب والكحول بشكل مستمر، وكنت في حيرة من أمري ".
صدرت تنهيدة عبر المائدة ، بينما كان صديقا تينيسي جالسين بسكون وهما يصغيان . كان احدهما أستاذا بالأدب الانكليزي في إحدى الكليات ولقد جاء ليسلم على صديقه القديم تينسي بمدينة نيو اورلينز قبل أن يسافر تينيسي إلى ايطاليا في رحلة ينشد من خلالها بعض راحة البال . كان الآخر شابا مفتول العضلات من ممتهني التزلج على الماء . كان اسمه فكتور هيربرت كامبل ، يبلغ الثالثة والعشرين من عمره ، وهو يعمل حالياً مدير أعمال تينيسي وليامز وكذلك رفيقاً له " بإمكانك أن تسميني فك ، كاختصار لفكتور " قال لي الشاب . "هاه" زعق تينسي ، " قصدك كاختصار لفك مكسور دمرته الحياة " . تحمر وجنتا الشاب خجلاً وحرجا فيعود إلى طبق طعامه ." سوف أبحر على متن السفينة مايكل انجلو إلى روما سوف يذهب معنا جورج ".
" كيف جورج هذه الأيام ؟ " سأل الأستاذ بعد أن كانت بعض قطرات من الصلصة التي كان يصبها على طبقه قد سقطت على ملابسه البيضاء .
" ليس على ما يرام " قال تينيسي وهو يتنهد " آخر مرة رايته لم يكن قد تحمم لأكثر من شهر وكان هناك نسيج عنكبوت يتدلى من سقف المآرب على أبواب سيارته ، سوف ينفعه السفر".
" هل رأيت كور مؤخرا ؟ "
" طبعاً لا أتوقع رؤيته قبل أن يتصل بي. كنت ثائراً بسبب ما كتبه عني في الجريدة . إن الشاب فكتور يشبه كثيرا كور في شبابه ".
" من هو كور ؟ " يسأل فكتور، وهو يلوك قطعة مقالي فرنسية .
" انه كاتب يا حبيبي ، فهو مؤلف رواية مايرا بريكنرج ".
" أوه ، لقد سمعت بها " قال فكتور وهو يبتسم منتصرا .
يلتفت تينيسي إلى : " هذا الصبي لا يميز بين كارسن ماكلر وايرفنك برلين . انه تربية جيل التلفزيون ، أليس كذلك يا فكتور ؟ في المنزل في مدينة كي ويست ، يسهر ليتفرج على البرامج والمسلسلات التلفزيونية ، ومن ثم يأتي إلى في غرفتي يروي لي ما كان قد شاهده . من المفروض إننا الآن في كي ويست لولا أني لم اعد أطيق العيش فيها نظرا لأني مريض للغاية بحيث لا استطيع العيش حيث لا تتوفر العناية الطبية اللازمة لي".
هناك العديد من الأمراض في حياة تينيسي وليامز لدرجة لا يعرف متى يبدأ واحد وينتهي آخر. اسأله عن آخرهم ، يجيب " لم اعرف طيلة حياتي إلا الأمراض لدرجة لا اعرف آخرهم . أجريت لي عملية جراحية في بانكوك لاستئصال ورم سرطاني في صدري . حينما استشرت طبيبي الخاص بجراحة القلب الدكتور جورج برج هنا في نيو اورلينز في الصيف الماضي اكتشف أثناء إجراء الفحوصات ورماً طفيفاً في منطقة الغدة الثديية اليسرى عندي".
" أنا هنا لمراجعة طبيب الأعصاب وطبيب القلب ، " قال الأستاذ مداخلاً .
" سرطان الصدر حالة نادرة بين الرجال ، أليس كذلك ؟ " لا استطيع مقاومة السؤال.
" اجل يا حبيبي ، طوال حياتي لم يحدث لي إلا الأشياء النادرة . على أية حال احد معارفي الذي لن أفصح عن اسمه كان ينوي أن يأخذني في رحلة إلى الشرق واخبرني طبيبي إن كان الورم في صدري خبيثاً فهو ينصحني أن اصرف النظر عن السفر وان أُجري عملية فوراً إلا أن صاحبي قال أن لا داعي للعملية لان الجراح الخاص لملك تايلند صديقه . وهنا قلت تباً للعملية فأنا ذاهب في تلك الرحلة . ولكن الورم كان يزداد حجماً ولو ببطء ونحن نمخر عباب مياه المحيط الهادي . وحينما اقتربنا من هاواي (ويلفظها هايواهيوه) تملكني الهلع لدرجة قمت أتحدث بالموضوع لفريق الصحفيين الذي كان معنا على ظهر السفينة . قلت للصحفيين بأنني في طريقي لإجراء علمية جراحية على يد الجراح الخاص لملك تايلند في بانكوك . حينما وصلت بانكوك أخبرتني موظفة الاستقبال في فندق الشرق بعد نصف ساعة من وصولي أن هناك مراسلي الصحف يريدون أن يسلَّموا علي . نزلت للأسفل وكانوا يحتسون المارتيني ، وهكذا أسرعت الخطى وشاركتهم على الفور. هيهيهيهيهيهي . وفجأة ران صمت فقام احدهم وتحدث قائلا وهو يوجه كلامه إلي : " سيد وليامز، هل صحيح انك أتيت إلى بانكوك لتموت؟ " هيهيهيهيهيه ضحكت مليء شدقي طبعاً . قلت له : " لا ، وان كنت في طريقي لأموت فان المكان الذي أريد أن أموت فيه هو روما ". وهكذا بدأت الإشاعة في العام الفائت بأنني موشك على الموت بالسرطان . لقد انتهى كل شيء الآن وهكذا لا يهمني الحديث عن الموضوع . ولقد أجريت لي عملية جراحية بتخدير موضعي ولقد زال مفعول المخدر والعملية لم تنته بعد . لك أن تتصور الألم الذي كابدته ولكن لحسن الحظ كنت احمل زجاجة شيري معي تحسباً للطوارئ وحتى أني لم أكن قد حجزت غرفة لي في المستشفى . نهضت بعد العملية وعدت إلى الفندق لتناول الغداء . ينتشر سرطان الصدر عند الرجال بسرعة أكبر مما عند النساء وأتصور أن سرطاني لم يكن من النوع الخبيث وإلا لكنت ميتاً الآن " .
" ولكن صادفتك مشاكل إضافية منذ حينئذ ، أليس كذلك ؟ "
" مشاكل بدنية ؟ نعم والله فلقد مرت علي مدة طويلة وأنا لا اعرف العافية . أتصور أني كنت ادفع ثمن سنوات عمري المبكرة ، سنوات الفقر والعوز قبل أن ابتدأ في جني الأموال ، سنوات رهيبة من الفاقة والحرمان أنهكتني والأكثر من هذا . كانت عندي وساوس مرضية ، وكانت أختي روز نزيلة مصحة منذ كانت في السابعة والعشرين من عمرها. وكذلك عندي مرض الرهاب من الأماكن الضيقة . في إحدى المرات أودعت السجن لأني كنت أقود سيارتي ليلاً من دون إشعال الأضواء الأمامية ، وفي داخل المحجر بالسجن أصابني الهلع من الموت في نقرة رطبة معتمة وأنا بصحبة مومسات ، والناس الذين كانوا يصرخون من اجل النجدة حطموا أعصابي بصياحهم . بعد إطلاق سراحي راجعت محللا ً نفسياً يتبع الأسلوب الفرويدي وعزى كل شيء إلى .. اللبيدو ، كما يقول الفرويديون .. هيهيهيهيهي ويييييييز ... اعتقدت أن ذلك كان تفسيرا ساذجا للموقف .. هاهاهاهاهاها ...
صمـــوئيـــل بيكـــت
فيما يلي تقرير بقلم ميل كصو حول لقاء تم بينه وين صموئيل بيكت .
كما عرفت فيما بعد كان بيكت يلح على الدقة في المواعيد وانجاز الإعمال بوقتها المحدد . على أية حال وصلت حوالي ساعة قبل الموعد المتفق عليه. أوقفت سيارتي في شارع فرعي ، ومشيت في شارع سان جاك . كان مكان اللقاء هو جزء من فندق وهو محل مكتظ بالمسافرين ، وللمحافظة على أبهة الفندق كان المقهى ويدعي " كافي فرانس" على الطراز العصري ، وهو مكان لا يتوقع أن يرى فيه المرء صموئيل بيكت . وعند تمام الحادية عشرة صباحا بالضبط ، دخلت المقهى . كان بيكت قد سبقني إلى هناك وجلس في زاوية قصية بهامته الفارعة وسيمائه المكفهر. كان يرتدي سترة بنية اللون من الصوف الناعم وتحتها بلوز من النوع الذي فيه حلق مثل حلق السلحفاة ، وكان يضع نظارات صغيرة سوداء مدورة تشبه نظارات هام البطل الأعمى لمسرحيته " لعبة النهاية " . كان يشرب قهوة اكسبرسو ويدخن سيكارا رفيعاً اسود اللون . بعد تبادل التحية وطلبه القهوة لي أخذت أحدثه عن العرض الأخير لمسرحيته في انتظار كودو من إخراج فرانك دنلوب على خشبة مسرح أكاديمية بروكلن للموسيقى وكان مذكور في لوحة الدعاية انه سبق لبيكت وان اخرج المسرحية بنفسه في قاعة بام في ألمانيا . في الواقع كانت هذه نسخة دنلوب الأمريكية مع تغيير في الممثلين وكانت بصراحة بعيدة عن روح النسخة الألمانية . كان من الواضح أن بيكت لم تعجبه فكرة قيام دنلوب باستغلال اسمه لغرض الدعاية والإعلان . بعد ربع ساعة من الحديث سألت بيكت فيما إن كان بإمكاني تدوين الملاحظات ، وافق لكنه ذكر قائلا : " إن هذه ليست مقابلة. " اتفقنا .
غطت هذه المحادثة الأولية العديد من المواضيع ولكنها تمحورت حول مسرحية في انتظار كودو . أكد لي انه كان قد تفرغ من تأليفها عام 1949 ومن ثم في السنوات الأربع التالية كان يحاول تقديمها على المسرح هي والمسرحية التي كان قد كتبها آنفا تدعي ايلوثيريا . لما سألته هل حمل في انتظار كودو وذهب بها للمخرجين قال أن زوجته سوزان أخذتها وطافت بها على المخرجين بمسارح باريس ورفضها الجميع مثلما يرفض ناطور مبنى دخول غير المقيمين . أشار احد معارفه أن يقصد روجر بلان وهو مخرج وممثل يعيش في باريس ويميل للحركة الطليعية في الفنون والآداب ، وسبق لبيكت وان شاهد إخراج بلان لمسرحية سترندبرغ سوناتا الأشباح وكان بيكت قد أعجبه في بلان شيئين هما : الإخلاص للمؤلف والخلو شبه التام لخشبة المسرح من أي أثاث ومناظر مسرحية . سلمت سوزان إلى بلان كلتي المسرحيتين ويقول بيكت إن اختيار بلان وقع على كودو لقلة تكلفة إنتاجها . وعلى أساس قبول بلان لإخراج المسرحية أهداه بيكت مسرحيته التالية لعبة النهاية .
لم يحضر بيكت ليلة افتتاح في انتظار كودو في باريس لكنه حضر عرضا آخر في مسرح آخر ووجد المسرحية على حد قوله تثير الإحساس بالانهيار. كان بيكت يكره مشاهدة مسرحياته إذ كان ذلك يجعله يحس بغاية الاضطراب والتوتر إذ حسب تعبيره " أرى كل أخطائي". من ناحية أخرى كان يحب حضور التمرينات والتدريبات مع الممثلين والمخرج إذ أثنائها بإمكانه أن يصحح أخطائه .
لماذا ألف بيكت مسرحية في انتظار كودو بالفرنسية وليس بالانكليزية لغته الأم ؟ أجابني بيكت : " لأن الانكليزية كانت بغاية السهولة بينما أنا كنت انشد الانضباط ". وحين جاء الكلام عن سبب انتقاله من الرواية إلى المسرحية قال : " أفضل محدودية خشبة المسرح مقارنة بالفضاء اللانهائي للنثر . اتجهت للمسرح كملاذ من سواد النثر ، فبعد الأدب الروائي كان المسرح هو النور". ثم عقب قائلا بوجوم بيكتي معهود : " وسرعان ما انقلب المسرح بدوره إلى سواد ".
حدثني انه كتب كودو بغضون أربعة أشهر وعلى حد تعبيره " بسرعة فائقة لم يسبق لها مثيل عندي كما ولم أكن اعرف إلى أين ستؤدي الكتابة بي أو ماذا كان سيكون اسم المسرحية . كتبتها في دفتر تمارين مدرسي ، من أول صفحة إلى آخر صفحة وحين انتهى الدفتر ولم تنته المسرحية أخذت أكمل الكتابة بالمقلوب من أخر صفحة إلى أول صفحة . كانت هناك بعض التصحيحات لكن لم أمزق أية ورقة وبعد طبعها ونشرها ما زلت احتفظ بالمخطوطة ". ولكي يصور لي عملية كتابة المسرحية اخذ فاتورة الحساب من على المائدة حيث كان قد تركها النادل وطواها إلى نصفين وكأنما كان يهم بلعب عملية سحر بالأوراق وقلبها بنترة صدر عنها قرقعة جعلت النادل يسرع نحونا يخال أننا نريد دفع الحساب . ابتسمنا على حركة النادل وحاول بيكت إفهامه انه كان يستعمل الفاتورة لغرض شرح بعض الأمور وحينما وجد أن محاولته في إفهام النادل ما كان يجري باءت بالفشل ، هز كتفيه علامة على عدم الجدوى ولإنقاذ الموقف جدد طلب القهوة .
عــــزرا بـــاونـــد
في خريف سنة 1962 كان روبرت ستيرن الأستاذ الجامعي يتمتع بسنة تفرغ علمي في إحدى الجامعات الايطالية لتدريس الأدب الانكليزي على طلبتها ، وبطريق الصدفة اكتشف تواجد الشاعر عزرا باوند (1885 – 1972) وفيما يلي تفاصيل ما حدث :
بعد حصولي على عنوان سكن باوند ذهبت للبحث عنه . لما وصلت المنطقة ، أخذت اقرع أجراس البيوت وأنا اسأل إن كان هناك أمريكي كبير السن يدعي عزرا باوند . في الأخير قالوا لي انه يسكن في بيت على الناصية . ذهبت وقرعت الجرس وإذا بسيدة تطل علي من الشرفة (تبين فيما بعد أنها اولكا رج خليلة باوند) . بعد أن عرَّفتها بنفسي أخبرتها بأن هدف زيارتي هو بسبب إعجابي بالشاعر الكبير . نزلت من الشرفة وفتحت لي الباب وأخذتني إلى غرفة في الطابق العلوي وجلست على كرسي الخيزران الصيني . كان باوند يرتدي قميصا ثخينا قديما وهو جالس في الفراش محاط بمجاميع من الكتب من جملتها بعض الروايات . كان حلوا ولطيفا ولكن كانت عيناه تنمان عن ثعلب قديم . ران صمت استغرق دقائق بدت طويلة . سألته فيما إن كان لا يزال يكتب ، أجابني انه يكتب بيت شعر واحد في الشهر . حينما سألته ماذا يقرأ هذه الأيام أجاب انه يقرأ فردوس دانتي . لم تستغرق الزيارة أكثر من عشرين دقيقة واستأذنت بالانصراف . كان باوند مسرعا بمد يده للمصافحة وداعا مع ابتسامة ليس من باب اللطف والحفاوة لكن بفرحة التخلص مني . ولكن السيدة رج دعتني لتناول القهوة بعد أسبوع .
وهكذا بدأت سلسلة زياراتي الأسبوعية لبيت عزرا باوند . كان في بعض المرات ينزل باوند نفسه ليفتح لي الباب ويدخلني البيت . وأخذت مدة الزيارات تطول والأحاديث تكثُر. قال انه لم يكن لديه الفلوس الكافية لزيارة اليونان ومصر وهما بلدان طالما حلم بزيارتهما ، فأخبرته بأني سأجمع له المال الكافي لذلك وفعلا زار اليونان بعد سنة .
وخارج المنزل كنت أصادفه مع اولكا وهما يسيران متأبطين ذراع بعضهما البعض . أحيانا كنا نجلس في مطعم لتناول الغداء وحين سخن الجو كنا نتناول المثلجات في المقاهي . على العموم كان مشّاءً جيداً ونشطاً وحين كان يسلّم علي الناس أو يرد التحية كان بغاية الدفء ، وهذا ما جعلني أتذكر قلبه الإنساني الحنون في مساعدة الأدباء الناشئين في الماضي قبل 50 و 60 سنة مضت وخاصة دوره في نشر رواية جيمز جويس يوليسيز وقصائد روبرت فروست ومن ثم مراجعته وتنقيحه لقصيدة ت.س. اليوت الأرض الخراب . جعلني هذا الجانب فيه أسامحه على الجانب الآخر في سلوكه حينما أصبح فاشياً وصادق موسوليني واخذ يذيع خطابات مناوئة لبلده أمريكا إبان الحرب العالمية الثانية .
وفي إحدى المرات زارتنا ماري ابنة باوند من اولكا ومعها زميل ايطالي من أصل روسي اسمه جيا نفرانكو ايفانجيك . كان باوند وايفانجيك من الضرب الصامت وكان بإمكانهما الجلوس فترات طويلة من دون تبادل كلمة واحدة من دون الإحساس بالحرج. لم استطع تحمل هذا الحرج ولم تستطع كذلك اولكا وماري . وهكذا كنا نحن الثلاثة نقوم بمهمة المحادثة . في إحدى المرات سألتني ماري عن معنى كلمة فأشّرتُ إلى والدها قائلاً لها بأنه هو المرجع اللغوي فتأففت قائلة بأنها إذن لن تفهم أي معنى . ألقت هذه الحادثة الصغيرة الضوء على طبيعة العلاقات داخل أسرة باوند. كان باوند متزوجاً من دورثي شكسبير وهي لم تكن تسكن معه مع إنهما لم يكونا مطلقين وكان لباوند ابناً من دورثي اسماه عمر تيمناً بالشاعر عمر الخيام وكان عمر بمنصب أستاذ الأدب العربي بجامعة بوسطن ومن ثم أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة كمبرج .
وحين كان باوند في مزاج للمحادثة كنا نناقش أخبار الأدب والأدباء وفي إحدى المرات جاء ذكر همنكواي الذي كان قد انتحر في السنة السابقة . كان الحادث مؤلما لباوند الذي لم يصدق انه انتحر لأنه حسب رأي باوند كان كاثوليكيا . وكان همنكواي احد مريدي باوند ، وكذلك كان اليوت الذي أجمل مكانه باوند الأدبية حينما قال : " لو أن هناك أية عظمة أو أهمية للشعر الانكليزي الحديث فالفضل بذلك يعود لعزرا باوند" .
كيــــرتــرود ستـــاين
ولدت كيرترود ستاين (1874 – 1946) الأديبة الأمريكية في ولاية بنسلفانيا ونشأت في فيينا وباريس وسان فرانسسكو ودرست علم النفس والطب في الجامعات الأمريكية ، لكنها استقرت في باريس حيث كانت تختلط بالكتاب والفنانين وطورت لنفسها أفكارا حديثة بشأن الشكل الأدبي . كانت تعيش مع رفيقة عمرها اليس توكلاس . قام بمقابلتها جون هايد بريسن وهو كاتب ومؤرخ محلي .
يقول بريسن : ذهبتُ ذلك الصباح لمقابلة كيرترود ستاين ولقد قامت صديقتها ومديرة أعمالها باتخاذ كافة الترتيبات لإجراء المقابلة وبعد دخولي في الشقة التي كانتا تسكنان فيها ، جلستُ وأقبلت ستاين مرحبة بي .
كانت تتحدث بتلقائية وصوت رخيم وحين كانت تطرح أفكارها كانت شديدة الثقة بنفسها ولو أنها أحيانا كانت غامضة في مراميها . تبين لي فيما بعد أن سبب هذا الغموض أنها لديها المقدرة على استشفاف بعض الأشياء الخفية داخل النفس البشرية التي لا يمكن للشخص العادي إدراكها لكنها تأتي بشكل ومضات لمن لديهم المقدرة على الوصول إلى تجليات روحية خاصة . ولقد كانت محادثتنا تلقائية وحرة منذ البداية وحتى النهاية ولم نحس بأنني قد جئت من أجل حديث للصحافة . والشيء نفسه يصدق على هندامها ومظهرها ، فلقد كانت مرتدية ملابسها العادية وكان شعرها الرمادي القصير الذي لم تمرر عليه المشط ينم عن عفويتها . والحقيقة يبدو أنها كانت قد مررت أصابعها على شعرها لتمسّده لتجعله يبدو على هيئة تسريحة القياصرة . ومن ناحية أخرى كانت ذات نظرات حادة ثاقبة من دون أن تركز عينيها على شيء معين .
تحدثت ستاين قائلة : " الكتابة هي عملية تلقائية فحين يجلس الكاتب ليكتب لا يفكر بالنتائج ، لكنه مجرد يحس بعملية الإبداع أي بكلام آخر يكون همه المسافة بين قلمه والصفحة التي يكتب عليها في لحظة الكتابة ، ليس قبلها ولا بعدها ، والأفكار تأتي لحظة الكتابة وان لم تأت فمن العبث البحث عنها . صحيح أنها هناك قبل عملية الكتابة ، لكنها عادة تكون بشكل ضبابي ، وكتابتها على الصفحة هي بمثابة انقشاع الضباب وخروج الأفكار إلى النور. وعلاوة على ذلك فإن الكاتب لا يخترع الشكل الذي يكتب فيه ، إذ أن الشكل يأتي بعفوية ومن ذاته ، وهكذا إن سيطر الشكل على الكاتب وأخذه في مجالات ومدارات مختلفة فليكن ، وما على الكاتب إلا الاستمرار وعدم التدخل . الكاتب فقط يعرف ماذا يفعل ولكنه لا يعرف كيف يفعل ، عليه أن يسلّم القيادة بيد الشكل . بيد أن العديد من الكتاب يتدخلون في توجيه عبقرياتهم وهم بذلك يتوقفون عن الإبداع الحقيقي ، فهم يصبحون كُتّابا بالحرفة وليس مبدعين بالسليقة وهكذا فمتى قال احدهم : " أنا روائي " فقد حكم على نفسه بأنه إسكافي أدب ، وهذا ما حدث لسكوت فيتز جيرالد ، إذ انه بعد أن نشر كاتسبي العظيم أحس بأنه روائي كبير وهكذا انتهت عبقريته . والشيء نفسه يصدق على همنكواي فقد انتهى إبداعه سنة 1925 حينما نشر أولى مجموعاته القصصية وبعدها للأسف أحس انه روائي فأنقلب إلى اسكافي أدب . حينما تعرفت على همنكواي كانت لديه موهبة في تحسس المشاعر والتعبير عنها بشكل صادق ورائع وهذا ما نجده في مجموعته الأولى من القصص القصيرة ، حيث كان أديبا مبدعا أما في ما تلا ذلك فلقد أصبح اسكافيا أدبيا . على الكاتب أن يعرف انه يكتب بجدية وان عمله يختلف عن عمل بائع متجول . وأعود إلى مسألة الشكل لأقول انه متى ما اكتشف الكاتب الشكل الذي تميل عبقريته إليه فإن الشكل يصبح هو الكاتب نفسه ، وهو ذا السبب أن جيمز بوزويل هو أعظم كاتب سيرة حياة عندما كتب سيرة حياة الدكتور جونسن بعبقرية فذة لأنه استطاع أن يجعل جونسن يتفوه بكلمات هو لم يقلها لكنه لأنه فهم شكل حديثه وكتاباته ، نجح في إعطاء صورة حية رائعة عن جونسن . المهم في المسألة هو عدم التفكير بالشكل ، لكن جعل الشكل يأتي من تلقاء نفسه ، وهذا هو احد أسرار الأدب ".
نـــابــوكــوف
ولد فلاديمير نابوكوف (1899 -1977) الروائي الأمريكي في مدينة بطرسبرك في روسيا ، وهو ينحدر من أسرة ارستقراطية كانت قد غادرت روسيا إبان الثورة البلشفية عام 1919 . درس نابوكوف الأدب الفرنسي والأدب الروسي بجامعة كمبرج بانكلترة ، ثم عاش في برلين وانتقل إلى باريس إلى أن هاجر إلى الولايات المتحدة واكتسب الجنسية الأمريكية ومن أشهر رواياته لوليتا سنة 1959 .
استقر به المقام في سويسرا حيث مات . قامت بإجراء هذه المقابلة بنيو لوبي جليات وهي مراسلة لمجلة فوك وكان زوجها الثاني الأديب المسرحي الانكليزي الشهير جون اوزبورن .
" هل الملكة حامل ؟ " قال نابوكوف متسائلاً .
" لا اعتقد " ، أجبته .
" حينما شاهدتها على التلفزيون وهي تتفرج على مباراة كرة القدم لكأس العالم كانت بين الفينة والأخرى تمسّد بطنها " قام بحركة تمسيد على بطنه .
" أنها دائما تفعل ذلك " قلت له .
" آه ، حقاً : أنها حركة ملوكية ، دائماً حامل بطفل ، بوريث للعرش" قال ضاحكاً وهو بمنتهى الأنس والانشراح .
تقابلنا بمنطقة نائية في سويسرا . تحدثت إليه عبر هاتف الفندق وكانت طريقة كلامي مثل طريقة كلام إحدى الشخصيات في روايات شيرلوك هولمز . ولما كنت اعتقد انه لن يعرفني بطريقة الكلام هذه ، قلت له إني ذات شعر احمر وذلك كي يتعرف علي في بهو الفندق ، وهو من ناحيته قال انه سيكون حاملاً بيده كتاب تحدثي يا ذكريات والذي هو سيرته الذاتية .
لفرط دهشتي استطاع أن يكتشف خصوصية وفرادة طريقتي في الكلام ، ولا عجب ! فلقد كان والده احد معارف مؤلف شيرلوك هولمز وهو الكاتب السير آرثر كونان دويل . لدى نابوكوف الرغبة الجامحة لأي كاتب لمعرفة دقائق تفاصيل المظاهر كما وله إذن حساسة في تمييز اللهجات واللغات . كان قد اقلع عن التحدث باللغة الروسية التي كان يتحدث بها بطلاقة وبلاغة وفصاحة والتي كتب بها روايته الأولى واخذ يتحدث بالانكليزية التي تعلمها من مربيته ، وكتب رواياته الأخرى بلغة انكليزية لذيذة مشاكسة تدغدغ حواس الانكليز أكثر من الكتاب الانكليز وتصل إلى أعماق في النفس لا يصلها الكتاب الانكليز .
يبدو لي أن هذا هو السبب في انه يكتب عن الحب بشكل أفضل من الكتاب الانكليز أنفسهم إذ أن مرارة النفي تحمل لسعة القيام بسرقة ومن ثم حلاوة الإحساس بالحميمية التي يحسها اللصوص بعد خروجهم سلامات من مأزق .
كان يتمتع بروح دعابة روسية خالصة ، وحين كانت تمسك تلابيبه ويعجز عن الخروج عن سيطرتها يصبح منظره رائعاً للغاية ، وهو في الحقيقة يحمل الكثير من صفات ومزايا المهرج . وحين تجتاحه نوبة ضحك ، تراه يهتز على الكرسي ويبدو كأنه على وشك السقوط أو كسر الكرسي . وهو شخص سهل التعامل ويطلق الإحكام على الناس والأشياء بعفوية وسرعة ، فمثلاً حينما سألته عن رأيه بالأديب بوريس باسترناك ، أجاب وكأنه يعطي رأيه بوجبة طعام : " إن الدكتور زيفاكو هي رواية مزيفة ، مثخنة بالميلودراما وسيئة التأليف ، وهي غير صادقة مع التاريخ ولا مع الفن وشخصياتها دُمى ، لكن باسترناك شاعر مجيد ، وكمترجم لشكسبير فهو لا يستحق الثناء ، وفقط الذي يجهلون اللغة الروسية هم الذين يعجبون بترجمانه لشكسبير".
ثم جاءت زوجته وجلست معنا وطلبنا الشاي بالليمون وكان حينما يريد أن يستشهد ببيت شعر أو مقولة من كاتب كانت زوجته هي التي تأتي بهذه الاستشهادات وكأن ذاكرتها تعمل مثل ذاكرة حاسوب . ثم تحدث عن هوايته الغريبة نوعا ما وهي صيد الفراشات وقال :" إن الناس يحملون ذكريات عن مدينة لوس أنجلس على مبانيها ومسارحها وشوارعها وعلى هوليوود التي تقع قربها لكني احن إلى لوس أنجلس على غاباتها المليئة بأعداد غفيرة وأنواع شتى وأجناس متعددة من الفراشات . حين كنت اذهب عصراً لممارسة هوايتي المفضلة كنت أعيش ألذ ساعات حياتي . بطبيعة الحال ، ما عدا الساعات التي تكون فيها معي حبيبتي فيرا ". قال ذلك وهو يتبادل النظر مع زوجته فيرا وهو يبتسم ابتسامة عريضة رائعة .
تينيســــي وليـــامـــز
مقابلة صحفية أجراها ريكس ريد مراسل صحيفة أسكواير .
" كنت مريضاً في الآونة الأخيرة يا حبيبي". قال تينيسي وليامز وهو يجلس تحت شمعدان وقد ثبت وردة عباد الشمس على جهة سترته وقد أطلق له لحية . كان قد انتهى لتوه من تناول غداءه في مطعم أنطوان . كان يأكل قواقع روكفيلر ويشرب النبيذ الأبيض المبرد ويتحدث عن الحياة . لو كان هناك تمساح في مستنقع يتكلم ، فسوف يكون يشبه تينيسي وليامز إذ كان لسانه مطلياً بشراب الرم ويخرج ويدخل متلاطماً وهو يلامس شنب صاحبه مثل لسان عضاءة وردية اللون . كان صوته يتمايل كدخان منبعث من سيكار في غرفة بلا تهوية . ومن ثم على حين غرة ، يطلق ضحكة حادة مثل صرخة ببغاء بري جريح وكانت يداه ترفرفان مثل طائر يحتضر في مزرعة دواجن مهجورة . كان الفرح الظاهري يخفى تحته ترحاً تراجيدياً ، ففي سن الستين ، يجلس أشهر كاتب مسرحي في العالم على شفا حفرة من الانهيار ، وهو يقاتل كنمر ويتكلم كشاعر: "تحاول الكواسر أن تنقر عيني ولساني وعقلي ، ولكنها لن تفلح في النيل من قلبي " .
كان مريضاً طوال حياته ، وبعد إصابته بالدفتيريا اخذ يعاني من مرض كلوي دائم ، كما وانه أصيب بشلل استمر عدة سنوات وأصيب بأول انهيار عصبي حينما كان في الثالثة والعشرين من عمره . وفي السنوات العشر الأخيرة أصبحت جلسات سكره وتناوله المخدرات مادة دسمة للصحافة . في سنة 1969 انتهى الأمر به في مصح للأمراض النفسية ،" كنت خارج عقلي يا حبيبي ، لم اعد استطع أن أتذكر كم حبة تناولت ، ولا كمية الكحول التي بها أنزلتها . نهضت من النوم عند الثانية فجرا وأخذت اصب على نفسي القهوة الثقيلة ، وحين وعيت على نفسي وجدت أخي داكن وكان قد أودعني في المصح الذي فيه أصابتني ثلاث حالات تشنج ونوبتان قلبيتان . تلقيت معاملة بغاية القسوة . إن النوم هو حاجة ضرورية بالنسبة لي ، يساعدني على العمل . تكفيني أربع ساعات ولكني أدمنت على الحبوب المنومة لأنني لا استطيع الحصول على كفايتي من النوم . في المصح كانوا يمنعون علي النوم لمدة أربعة أيام بلياليها . فقدت من وزني خمسة عشر كيلوغراما وأوشكت أموت . لكنني الآن قد تعافيت ، وإنني حاليا مبتعد عن المشروب " .
" هل أنت خائف من الموت ؟ " سألت .
يحدق في القشرة الداخلية لقوقعة كان قد فرغ من تناولها : " اعتقد إنني طالما فكرت به ، وله حضور في مسرحياتي بشكل دائم . كانت تمضي علي ليال كنت أخاف فيها أن اذهب إلى الفراش . كنت في السنين القليلة الماضية أفكر كثيرا بالانتحار. كنت في الستينات أعيش على هامش الحياة إذ كنت عائشاً تحت تأثير الحبوب والكحول بشكل مستمر، وكنت في حيرة من أمري ".
صدرت تنهيدة عبر المائدة ، بينما كان صديقا تينيسي جالسين بسكون وهما يصغيان . كان احدهما أستاذا بالأدب الانكليزي في إحدى الكليات ولقد جاء ليسلم على صديقه القديم تينسي بمدينة نيو اورلينز قبل أن يسافر تينيسي إلى ايطاليا في رحلة ينشد من خلالها بعض راحة البال . كان الآخر شابا مفتول العضلات من ممتهني التزلج على الماء . كان اسمه فكتور هيربرت كامبل ، يبلغ الثالثة والعشرين من عمره ، وهو يعمل حالياً مدير أعمال تينيسي وليامز وكذلك رفيقاً له " بإمكانك أن تسميني فك ، كاختصار لفكتور " قال لي الشاب . "هاه" زعق تينسي ، " قصدك كاختصار لفك مكسور دمرته الحياة " . تحمر وجنتا الشاب خجلاً وحرجا فيعود إلى طبق طعامه ." سوف أبحر على متن السفينة مايكل انجلو إلى روما سوف يذهب معنا جورج ".
" كيف جورج هذه الأيام ؟ " سأل الأستاذ بعد أن كانت بعض قطرات من الصلصة التي كان يصبها على طبقه قد سقطت على ملابسه البيضاء .
" ليس على ما يرام " قال تينيسي وهو يتنهد " آخر مرة رايته لم يكن قد تحمم لأكثر من شهر وكان هناك نسيج عنكبوت يتدلى من سقف المآرب على أبواب سيارته ، سوف ينفعه السفر".
" هل رأيت كور مؤخرا ؟ "
" طبعاً لا أتوقع رؤيته قبل أن يتصل بي. كنت ثائراً بسبب ما كتبه عني في الجريدة . إن الشاب فكتور يشبه كثيرا كور في شبابه ".
" من هو كور ؟ " يسأل فكتور، وهو يلوك قطعة مقالي فرنسية .
" انه كاتب يا حبيبي ، فهو مؤلف رواية مايرا بريكنرج ".
" أوه ، لقد سمعت بها " قال فكتور وهو يبتسم منتصرا .
يلتفت تينيسي إلى : " هذا الصبي لا يميز بين كارسن ماكلر وايرفنك برلين . انه تربية جيل التلفزيون ، أليس كذلك يا فكتور ؟ في المنزل في مدينة كي ويست ، يسهر ليتفرج على البرامج والمسلسلات التلفزيونية ، ومن ثم يأتي إلى في غرفتي يروي لي ما كان قد شاهده . من المفروض إننا الآن في كي ويست لولا أني لم اعد أطيق العيش فيها نظرا لأني مريض للغاية بحيث لا استطيع العيش حيث لا تتوفر العناية الطبية اللازمة لي".
هناك العديد من الأمراض في حياة تينيسي وليامز لدرجة لا يعرف متى يبدأ واحد وينتهي آخر. اسأله عن آخرهم ، يجيب " لم اعرف طيلة حياتي إلا الأمراض لدرجة لا اعرف آخرهم . أجريت لي عملية جراحية في بانكوك لاستئصال ورم سرطاني في صدري . حينما استشرت طبيبي الخاص بجراحة القلب الدكتور جورج برج هنا في نيو اورلينز في الصيف الماضي اكتشف أثناء إجراء الفحوصات ورماً طفيفاً في منطقة الغدة الثديية اليسرى عندي".
" أنا هنا لمراجعة طبيب الأعصاب وطبيب القلب ، " قال الأستاذ مداخلاً .
" سرطان الصدر حالة نادرة بين الرجال ، أليس كذلك ؟ " لا استطيع مقاومة السؤال.
" اجل يا حبيبي ، طوال حياتي لم يحدث لي إلا الأشياء النادرة . على أية حال احد معارفي الذي لن أفصح عن اسمه كان ينوي أن يأخذني في رحلة إلى الشرق واخبرني طبيبي إن كان الورم في صدري خبيثاً فهو ينصحني أن اصرف النظر عن السفر وان أُجري عملية فوراً إلا أن صاحبي قال أن لا داعي للعملية لان الجراح الخاص لملك تايلند صديقه . وهنا قلت تباً للعملية فأنا ذاهب في تلك الرحلة . ولكن الورم كان يزداد حجماً ولو ببطء ونحن نمخر عباب مياه المحيط الهادي . وحينما اقتربنا من هاواي (ويلفظها هايواهيوه) تملكني الهلع لدرجة قمت أتحدث بالموضوع لفريق الصحفيين الذي كان معنا على ظهر السفينة . قلت للصحفيين بأنني في طريقي لإجراء علمية جراحية على يد الجراح الخاص لملك تايلند في بانكوك . حينما وصلت بانكوك أخبرتني موظفة الاستقبال في فندق الشرق بعد نصف ساعة من وصولي أن هناك مراسلي الصحف يريدون أن يسلَّموا علي . نزلت للأسفل وكانوا يحتسون المارتيني ، وهكذا أسرعت الخطى وشاركتهم على الفور. هيهيهيهيهيهي . وفجأة ران صمت فقام احدهم وتحدث قائلا وهو يوجه كلامه إلي : " سيد وليامز، هل صحيح انك أتيت إلى بانكوك لتموت؟ " هيهيهيهيهيه ضحكت مليء شدقي طبعاً . قلت له : " لا ، وان كنت في طريقي لأموت فان المكان الذي أريد أن أموت فيه هو روما ". وهكذا بدأت الإشاعة في العام الفائت بأنني موشك على الموت بالسرطان . لقد انتهى كل شيء الآن وهكذا لا يهمني الحديث عن الموضوع . ولقد أجريت لي عملية جراحية بتخدير موضعي ولقد زال مفعول المخدر والعملية لم تنته بعد . لك أن تتصور الألم الذي كابدته ولكن لحسن الحظ كنت احمل زجاجة شيري معي تحسباً للطوارئ وحتى أني لم أكن قد حجزت غرفة لي في المستشفى . نهضت بعد العملية وعدت إلى الفندق لتناول الغداء . ينتشر سرطان الصدر عند الرجال بسرعة أكبر مما عند النساء وأتصور أن سرطاني لم يكن من النوع الخبيث وإلا لكنت ميتاً الآن " .
" ولكن صادفتك مشاكل إضافية منذ حينئذ ، أليس كذلك ؟ "
" مشاكل بدنية ؟ نعم والله فلقد مرت علي مدة طويلة وأنا لا اعرف العافية . أتصور أني كنت ادفع ثمن سنوات عمري المبكرة ، سنوات الفقر والعوز قبل أن ابتدأ في جني الأموال ، سنوات رهيبة من الفاقة والحرمان أنهكتني والأكثر من هذا . كانت عندي وساوس مرضية ، وكانت أختي روز نزيلة مصحة منذ كانت في السابعة والعشرين من عمرها. وكذلك عندي مرض الرهاب من الأماكن الضيقة . في إحدى المرات أودعت السجن لأني كنت أقود سيارتي ليلاً من دون إشعال الأضواء الأمامية ، وفي داخل المحجر بالسجن أصابني الهلع من الموت في نقرة رطبة معتمة وأنا بصحبة مومسات ، والناس الذين كانوا يصرخون من اجل النجدة حطموا أعصابي بصياحهم . بعد إطلاق سراحي راجعت محللا ً نفسياً يتبع الأسلوب الفرويدي وعزى كل شيء إلى .. اللبيدو ، كما يقول الفرويديون .. هيهيهيهيهي ويييييييز ... اعتقدت أن ذلك كان تفسيرا ساذجا للموقف .. هاهاهاهاهاها ...
صمـــوئيـــل بيكـــت
فيما يلي تقرير بقلم ميل كصو حول لقاء تم بينه وين صموئيل بيكت .
كما عرفت فيما بعد كان بيكت يلح على الدقة في المواعيد وانجاز الإعمال بوقتها المحدد . على أية حال وصلت حوالي ساعة قبل الموعد المتفق عليه. أوقفت سيارتي في شارع فرعي ، ومشيت في شارع سان جاك . كان مكان اللقاء هو جزء من فندق وهو محل مكتظ بالمسافرين ، وللمحافظة على أبهة الفندق كان المقهى ويدعي " كافي فرانس" على الطراز العصري ، وهو مكان لا يتوقع أن يرى فيه المرء صموئيل بيكت . وعند تمام الحادية عشرة صباحا بالضبط ، دخلت المقهى . كان بيكت قد سبقني إلى هناك وجلس في زاوية قصية بهامته الفارعة وسيمائه المكفهر. كان يرتدي سترة بنية اللون من الصوف الناعم وتحتها بلوز من النوع الذي فيه حلق مثل حلق السلحفاة ، وكان يضع نظارات صغيرة سوداء مدورة تشبه نظارات هام البطل الأعمى لمسرحيته " لعبة النهاية " . كان يشرب قهوة اكسبرسو ويدخن سيكارا رفيعاً اسود اللون . بعد تبادل التحية وطلبه القهوة لي أخذت أحدثه عن العرض الأخير لمسرحيته في انتظار كودو من إخراج فرانك دنلوب على خشبة مسرح أكاديمية بروكلن للموسيقى وكان مذكور في لوحة الدعاية انه سبق لبيكت وان اخرج المسرحية بنفسه في قاعة بام في ألمانيا . في الواقع كانت هذه نسخة دنلوب الأمريكية مع تغيير في الممثلين وكانت بصراحة بعيدة عن روح النسخة الألمانية . كان من الواضح أن بيكت لم تعجبه فكرة قيام دنلوب باستغلال اسمه لغرض الدعاية والإعلان . بعد ربع ساعة من الحديث سألت بيكت فيما إن كان بإمكاني تدوين الملاحظات ، وافق لكنه ذكر قائلا : " إن هذه ليست مقابلة. " اتفقنا .
غطت هذه المحادثة الأولية العديد من المواضيع ولكنها تمحورت حول مسرحية في انتظار كودو . أكد لي انه كان قد تفرغ من تأليفها عام 1949 ومن ثم في السنوات الأربع التالية كان يحاول تقديمها على المسرح هي والمسرحية التي كان قد كتبها آنفا تدعي ايلوثيريا . لما سألته هل حمل في انتظار كودو وذهب بها للمخرجين قال أن زوجته سوزان أخذتها وطافت بها على المخرجين بمسارح باريس ورفضها الجميع مثلما يرفض ناطور مبنى دخول غير المقيمين . أشار احد معارفه أن يقصد روجر بلان وهو مخرج وممثل يعيش في باريس ويميل للحركة الطليعية في الفنون والآداب ، وسبق لبيكت وان شاهد إخراج بلان لمسرحية سترندبرغ سوناتا الأشباح وكان بيكت قد أعجبه في بلان شيئين هما : الإخلاص للمؤلف والخلو شبه التام لخشبة المسرح من أي أثاث ومناظر مسرحية . سلمت سوزان إلى بلان كلتي المسرحيتين ويقول بيكت إن اختيار بلان وقع على كودو لقلة تكلفة إنتاجها . وعلى أساس قبول بلان لإخراج المسرحية أهداه بيكت مسرحيته التالية لعبة النهاية .
لم يحضر بيكت ليلة افتتاح في انتظار كودو في باريس لكنه حضر عرضا آخر في مسرح آخر ووجد المسرحية على حد قوله تثير الإحساس بالانهيار. كان بيكت يكره مشاهدة مسرحياته إذ كان ذلك يجعله يحس بغاية الاضطراب والتوتر إذ حسب تعبيره " أرى كل أخطائي". من ناحية أخرى كان يحب حضور التمرينات والتدريبات مع الممثلين والمخرج إذ أثنائها بإمكانه أن يصحح أخطائه .
لماذا ألف بيكت مسرحية في انتظار كودو بالفرنسية وليس بالانكليزية لغته الأم ؟ أجابني بيكت : " لأن الانكليزية كانت بغاية السهولة بينما أنا كنت انشد الانضباط ". وحين جاء الكلام عن سبب انتقاله من الرواية إلى المسرحية قال : " أفضل محدودية خشبة المسرح مقارنة بالفضاء اللانهائي للنثر . اتجهت للمسرح كملاذ من سواد النثر ، فبعد الأدب الروائي كان المسرح هو النور". ثم عقب قائلا بوجوم بيكتي معهود : " وسرعان ما انقلب المسرح بدوره إلى سواد ".
حدثني انه كتب كودو بغضون أربعة أشهر وعلى حد تعبيره " بسرعة فائقة لم يسبق لها مثيل عندي كما ولم أكن اعرف إلى أين ستؤدي الكتابة بي أو ماذا كان سيكون اسم المسرحية . كتبتها في دفتر تمارين مدرسي ، من أول صفحة إلى آخر صفحة وحين انتهى الدفتر ولم تنته المسرحية أخذت أكمل الكتابة بالمقلوب من أخر صفحة إلى أول صفحة . كانت هناك بعض التصحيحات لكن لم أمزق أية ورقة وبعد طبعها ونشرها ما زلت احتفظ بالمخطوطة ". ولكي يصور لي عملية كتابة المسرحية اخذ فاتورة الحساب من على المائدة حيث كان قد تركها النادل وطواها إلى نصفين وكأنما كان يهم بلعب عملية سحر بالأوراق وقلبها بنترة صدر عنها قرقعة جعلت النادل يسرع نحونا يخال أننا نريد دفع الحساب . ابتسمنا على حركة النادل وحاول بيكت إفهامه انه كان يستعمل الفاتورة لغرض شرح بعض الأمور وحينما وجد أن محاولته في إفهام النادل ما كان يجري باءت بالفشل ، هز كتفيه علامة على عدم الجدوى ولإنقاذ الموقف جدد طلب القهوة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق