رابعا : المتذمرون
الماركــــيز دي ســـاد
لحياة السجن حسناتها فهي تفسح المجال للسجين ليتفرغ لأنشطة تحرمه منها حياته خارج السجن، وخير مثال على ذلك هو الماركيز دي ساد (1740-1814) إذ أمضى من حياته في السجن 28 عاما قضاها في التأليف والكتابة حيث كتب عدة روايات ومسرحيات علاوة على مقالات ورسائل .
بدأ دي ساد يكتب لغرض النشر بعد نقله إلى سجن الباستيل عام 1784 ولقد كتب أهم رواية له وهي جستين أو قهر الفضيلة ، كما وكتب العديد من المسرحيات التي كان يخرجها بنفسه ويمثل فيها على خشبة مسرح مصحة شارنتون ، ولو انه من ناحية اشتهر أكثر ما اشتهر بكتابة الرسائل من السجن إلى أصدقائه ومعارفه وخاصة الرسائل التي كان يكتبها لزوجته ، كما في هذه الرسالة : " تقولين أن أفكاري لا تروق للآخرين ، أو تحسبين إني اكترث ؟ فقط الحمقى والمغفلون هم من يفكرون بشكل يروق للآخرين ، إن طريقة تفكيري تنبع رأسا من تأملات متأنية : وهي قوام وجودي وتتلاءم مع طينتي وانه ليس بمقدوري أن أغيرها أو حتى لو كان بإمكاني ذلك فلن أغيرها . إن طريقة تفكيري هذه التي تعيّريني بها هي التي تغنيني عن ملذات العالم خارج السجن : وهي اعز على قلبي من الحياة نفسها. ليست طريقة تفكيري ولكن طريقة تفكير الآخرين هي إلي تسببت في تعاستي . إن الشخص الذي يسفه خطل آراء الأغبياء من الناس حتما سيصبح عدوا لهم ، وعليه أن يتوقع ذلك وبالتالي يضحك ساخرا على ما ليس منه بد . هناك ثمة مسافر يسير في طريق مليء بالفخاخ فيقع في واحد منها : أتقولين إن تلك هي غلطة المسافر أم خبث اللئيم الذي نصب الفخ ؟ وأنت حسبما تقولين لي ، أنهم مستعدون لإعطائي حريتي شريطة أن ادفع ثمنها بمبادئي وميولي فعلى علاقتنا أنت وأنا السلام لأني والله أنا مستعد أن أضحي بألف حياة وألف حرية على أن أتنازل عنها ، إني متعصب لمبادئي وميولي بشكل لا فكاك منه واني هاهنا أعلن على الملأ بأن لا طائل من أن يتحدث إلى احد عن الحرية إن كانت الحرية ستمنح لي لقاء خرابي".
حين قامت الثورة الفرنسية صباح 14 تموز(يوليو) 1789 كان دي ساد في سجن الباستيل جراء تهم لارتكابه جنح أخلاقية من جملتها جعل الشمع السائل في شمعة موقدة ينقط على جسم إحدى النساء ، ومحاولة تسميم امرأتين بدس عصارة ذباب اسباني في طعامهما . وحين قامت الثورة حسب دي ساد نفسه عليها ويدعي انه هو الذي أشعل فتيلها وذلك بان عصر اليوم السابق لاندلاعها اخذ القعادة التي كان يقضي حاجته بها في غرفته وثقبها وجعلها على هيئة بوق واخذ يصرخ عبر الثقب : " يا ناس قوموا ، يا قوم ثوروا "، وهكذا يقول قامت الثورة الفرنسية .
أطلق سراحه بعد الثورة وعمل إلى جانب الثوار واكل الخبز والملح معهم وكأن السبب بذلك ليس حباً بالشعب إنما لتحقيق مآربه الشخصية في الحصول على ملذاته التي كان معظمها يمارسها عن طريق إيقاع الأذى بالآخرين ، فهو كان يستمتع بتعذيب الآخرين وهكذا من اسمه اشتقت كلمة السادية ، ولو انه من ناحية أخرى كانت الشفقة والرحمة تملآن قلبه ففي فترة عينته الثورة بوظيفة مشرف على المستشفيات وكان يرفع التقارير إلى المسؤولين ، وكانت التقارير تنم عن حزنه لمشاهدة المرضى يتألمون حتى انه في إحدى المرات تقيأ دما حين رأي احد المرضى في حالة يرثى لها.
وسرعان ما تصادم مع رجال الثورة وأودع السجن ثانية وصدر عليه الحكم بالإعدام ، ولولا انشغال رجال الثورة بإعدام رفيقهم الثوري روبسبير لما نجا دي ساد من تنفيذ الحكم . وازداد أعداؤه عددا وحتى كان من جملتهم نابليون نفسه الذي أراد التخلص منه وذلك بان اصدر الأوامر بإيداع دي ساد مصحة شارنتون للأمراض العقلية وبقى حتى مات .
كان دي ساد كاتبا مدمنا لا يستطيع العيش من دون كتابة وحين كانت قرطاسيته تنفد كان يستعمل العيدان الخشبية للكتابة وحين لا تتوفر هذه كان يستعمل عظام الدجاج . وكان يكتب على كل شيء : على الحائط على الملابس على شراشف السرير ويكتب بكل شيء إن لم يتوفر الحبر وحتى انه في الأخير كتب مرة على الحائط بعظم دجاجة بفضلاته .
راسبـــــــوتين
كتب الناقد الروسي فكتور ايرونفيف وهو يعرض كتاب جديد عن راسبوتين : " يرقد راسبوتين نائما في قلب كل روسي وهو يستيقظ بين حين وآخر وان صادف وان استيقظ مرة ، تنطلق الحياة في الروح ويبدأ المرء بالتمتع بنوع قاس من اللذة لا تشبهه لذة أخرى جراء دخوله في حالة من الهياج والانحلال والانطلاق" . يقول راسبوتين في احد تعاليمه : " العنف هو بهجة الروح " .
باستطاعتي أن أشهر به ، اكره وجهه المبارك ولعلي أتصور أن أقوم واقلع هاتين العينين الثاقبتين الابليسيتين السماويتين من محجريهما واقطع صورته إلى قصاصات صغيرة ومن ثم أذيبه في حامض مذيب من الخلاعات، لكنه يبقى بطلي الشخصي ، قريبي . يرتدي راسبوتين القناع القديم للشامان الأصليين المؤمنين بقوى الروح الخفية .
لا شك عندي في أن راسبوتين كان راقدا في قلب ادفارد رادزنسكي الأديب المسرحي وكاتب السير الذاتية الروسي المعروف . قام رادزنسكي بإيقاظ راسبوتين وذلك بكتابة سيرة ذاتية عنه . وهو يعترف انه كان في السابق يخاف أن يكتب عن راسبوتين لأنه لم يفهمه . والآن بعد صدور هذا الكتاب الموثق جيدا بالأدلة ما يزال رادزنسكي لا يفهم راسبوتين أو بالأحرى هو لا يريد أن يفهمه لان فهم راسبوتين بحق هو أمر مخيف جدا ، وعليه من الأفضل تجنب فهمه .
لقد حقق رادزنسكي أهم واجب لأي كاتب سيرة ذاتية وهي انه بعث الروح في الشخصية وجعلها حية في مخيلة القارئ وتركها لوحدها مع القارئ . طالما تصرف راسبوتين بشكل ينم عن رغبة دفينة في تحطيم الذات وبأسلوب يحول دون تحقيق النجاح - ولكنه استطاع الحصول على كل ما كان يرغب فيه : القسوة و القوة والقدسية .
ولد كريكوري راسبوتين في شمالي سيبيريا لعائلة فلاحية فقيرة وكان ناحل البدن ، أشعث الشعر وحافي القدمين . بين نهاية انفه وشفته العليا مسار لمخاط ينزل بين الفنية والأخرى ولعدم توفر منديل لإزالته كان الصبي راسبوتين يسحب المخاط بشهقة معيدا إياه إلى الأنف تفاديا لدخوله فمه . كانت أعصابه قوية وأسنانه حادة ويده طويلة على أبيه وأب أي ولد في المحلة وكان كثير الشغب والعراك بالأيدي والأرجل والبصاق . كان قليل النوم ، ويقول انه إحدى المرات لم يستطع النوم لمدة أربعين يوما متواصلة إلا لسويعات قليلة وهكذا اتجه لطلب العون من القسس . كان يسير حافي القدمين من دير إلى دير وهو لا يغير ملابسه الداخلية كل ستة أشهر . وحج إلى بيت المقدس .
وتدريجيا وبعد ممارسات طقوسية في الزهد والورع اكتشف انه يمتلك قوى روحية نافذة وهكذا بدأ بمزاولة العزامة فكان يُعزّم على المرضى وخاصة النساء . وكان ناجحا في هذا المضمار حتى وصل صيته إلى زوجة القيصر الكساندرا فيودوروفنا ، وهكذا انفتحت أمامه أبواب القصر الإمبراطوري في موسكو وكان يدخل القصر كما كان يدخل بيته . وبعد ولادة أربع بنات ولدت الإمبراطورة ابنا ليكون وريث العرش اسمه اليكسي الذي كان يعاني من فقر الدم ورثه عن أمه . اخذ راسبوتين يعالج الطفل عن طريق الرقى والعزامة وكانت النتائج ناجحة بشكل باهر مما جعل الإمبراطورة تؤمن براسبوتين .
كان راسبوتين يكبر لينين بأقل من سنة ونصف فهو من مواليد عام 1869 . كان والده سكيرا وكانت أمه تعاني الكثير من زوجها ومن تربية خمسة أطفال ماتوا جميعهم قبل ولادة كريكوري الذي لم يتلق تعليما مدرسيا ولهذا بقي طوال حياته شبه أمي ويكتب بخط متعرج كلمات بتهجئة لا توجد في معاجم اللغة الروسية أو غيرها . وان هذا النزوع للأمية هو جزء من النفسية الروسية التي تنظر إلى المتعلمين . وطالما حلم تولستوي بحياة بسيطة من دون التعقيدات التي تأتي بها الكتب ، بينما كان راسبوتين يعيش حياة بسيطة منذ البداية . وعلاوة على ذلك هناك نظرة الإجلال والإكبار الروسية للصمت ، إذ أن السكوت هو من علامات النبوغ .
كان كريكوري راسبوتين مزيجا من دون جوان وميكافيلي وفيه صفات تدعو لمقارنته مع الماركيز دي ساد مع وجود فروقات جوهرية فبينما يمثل دي ساد الإرادة على تحدي القوانين من دون عقاب والتمتع بهذا العصيان يمثل راسبوتين ثالوث الخطيئة والتوبة والقدسية . مات راسبوتين بشكل عنيف : دسوا له السم في الطعام واكله ولم يمت ، أطلقوا عليه الرصاص ولم يمت ، ولم يمت إلا بضربة بلطة فجت رأسه إلى نصفين وكان ذلك سنة 1916 .
دج شــــــــولتز
كان آرثر فليخنخايمر ، المعروف باسم دج شولتز (شولتز الهولندي) غريبا على المجتمع الأمريكي فكان يميل للصمت ، وهذا ما جعل الآخرين ينفرون منه ، في الوقت الذي كان فيه العالم السفلي للعصابات يموج بشخصيات تثير الإعجاب مثل آل كابوني ، ليكزدايموند وقيصر الصغير . وفيما كان عنف العصابات يستمد ديمومته من زعماء الجريمة المنظمة الذين لم يُرفض لهم طلب ، كان شولتز قابعاً في زاويته . وبينما كان يتمخطر زعماء العصابات في أبهى البدلات المقلمة وأربطة العنق الحريرية كان شولتز وهو في أوج مجده حسب وصف صحيفة نيويورك تايمز: " يبدو كشحاذ قبيح الهندام .. فلقد كان سرواله منتفخاً وكانت ياقة معطفه الصغير هادلة ببعد عن رقبته .. ويبدو انه كان موهوبا في الظهور بمظهر الرجل الفاشل ". ومع ذلك فحينما مات برصاصات أطلقها عليه القاتلان المأجوران جارلي وركمن المُكَنَىَّ بالآفة وميندي فايس وكان ذلك في أواخر سنة 1935 كان قد أصبح أقوى رجل في عالم نيويورك السفلي . وبعد ثلاث سنوات قالت صحيفة التايمز: ".... أما سر جبروت شولتز الهولندي فهذا أمر سيبقى طي الكتمان .. كان شولتز نسيج وحده ، لا يشبهه احد ".
كشخصية دخلت عالم الأدب من احد الأبواب الخلفية كان شولتز على الشاكلة نفسها ، لا يشبهه احد ، فبمقارنته بكابوني وليكز دايموند فهو يظهر في عدد ضئيل من النصوص كما وان القليل منها ، ومن ضمنها كتابات ي.ل. دكتورو ووليم س. بوروز لا يمكن التعويل عليها كثيرا . ولكن من ناحية أخرى ، فبخلاف أي زعيم عصابة آخر معاصر له ، ترك شولتز وراءه " النص" الخاص بسيرته الذاتية . إن آخر كلمات دج شولتز وهي سيرته على فراش الموت أسست أدب العصابات القصصي لما بعد الحداثة ، وهي تبقى من أكثر الوثائق العصيّة على الفهم في مجال أدب السيرة الحياتية . أنها حقا وثيقة ذات أسلوب غريب دفعت بشولتز إلى عالم أدب العصابات . لكن كتابا مثل دوكتورو وبوروز اكتشفوا في هذا الأدب منجماً ثميناً لتقييم أدب السيرة الذاتية ومقياساً لتذبذب الخطاب الشخصي في سياق أدب إعلام العصابات .
إن تأليف الكلمات الأخيرة هو قصة بحد ذاتها ، ففي حوالي الساعة العاشرة والربع من مساء 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1935 ، تلقى شوتز رصاصة قاتلة استقرت في منطقة الزائدة الدودية بينما هو يتناول العشاء في مطعم قصر مشاوي الريش بمدينة نيو آرك . وبين إدخاله مستشفى المدينة بعد بضع دقائق من حادث اغتياله ووفاته بعد حوالي اثنتين وعشرين ساعة بعد ذلك ، اضطجع الهولندي وهو يهذي جراء إصابته بالتهاب منطقة الغشاء الحاجز في بطنه . وفي أثناء ذلك وبغية الحصول على أية معلومات لها علاقة بعملية الاغتيال كلّفت مديرية شرطة نيو آرك كاتب الاختزال ف.ل. لونك أن يجلس إلى جانب سرير شولتز ليدون كل ما يخرج من بين شفتيه . يبدو أن ما دونه لونك هو هراءات وكلام فارغ غير مترابط ، إذ يبدأ شولتز بلهجة الأمر: " لا تدع أي ثور يتحرك يا جورج "، وينتهي بلهجة الوعظ والإرشاد: " حساء البزاليا الفرنسي الكندي ، أريد أن ادفع ، دعهم يتركوني لوحدي". وان قرابة الألفي كلمة التي بين الجملة الأولى والجملة الأخيرة هي بمثابة محك للفهم والاستيعاب . وصفت مجلة تايم كلام شولتز بأنه " ثرثرة مدهشة ، بعضها يصل مستوى الشعر، وأكثرها تكهنية غيبية غامضة ".
حين نشرت صحيفة نيويورك تايمز النص في 26 تشرين الأول (أكتوبر) ، كان ذلك بداية تاريخ أدبي مشوش لكن رائع . كان هناك محاولة لتجميع الكلمات وصبها في مجرى ثقافي عام لتصبح ضمن النتاج الأدبي الحديث . وبينما يجد وليم بوروز في كلمات شولتز الأخيرة فرصة كي يفرز العنصر القصصي عن عنصر أدب السيرة الذاتية يعتبر كلا من روبرت موريس وي.ل. دوكتورو هذه الكلمات بمثابة مجمل مختصر للخطاب الأدبي لفترة ما بعد الحداثة وهو خطاب يتميز أكثر ما يتميز بالغموض .
آل كابـوني
مقابلة صحفية مع آل كابوني - في مجلة لبرتي (الحرية) 17/10/1931 أجراها كورنيليوس فاندربلت الابن
الفونسو كابوني (1899-1947) زعيم العصابة الشهير من مواليد حي بروكلين بنيويورك ، تلقى تعليمه المدرسي في إحدى مدارس نيويورك وكان معه في الصف زعيم العصابات الشهير لكي لوجينانو وبنفس الوقت صادق جون توريلا رجل العصابات المتمرس خارج المدرسة . عمل لفترة كقبضاي في احد المطاعم وكان عمله هو إخراج الزبائن الذين يأتون إلى المطعم وهم سكارى آخر الليل. تزوج فتاة ايرلندية ثم تلقى أوامر من توربو أن يلتحق به في شيكاغو وعملا سوية سعيا وراء الرزق . وبعد محاولة اغتيال تعرض لها توريو استلم آل قيادة المنظمة وعلى الفور قام بتصفية العصابات الايرلندية والبولندية واليهودية المناوئة له . وفي فترة نهاية العشرينات حين صدر قانون تحريم الخمور عمل آل في تهريب الخمور من كندا إلى أمريكا وجنى أموالا طائلة من وراء ذلك وهي التي أرست قواعده وجعلت منه الرجل الأسطوري المعروف . لكن الذين يعرفونه عن كثب يقولون انه لطيف المعشر مرحب بالضيوف وخاصة الصحفيين ويمد يد المساعدة للمحتاجين وهو أب حاني على أولاده ومحب لزوجته ويقدس حياة الأسرة والبيت وشعاره : " كل من لا يحب بيته وعائلته فهو رجل فاشل وبائس". وفي محاكمة احد رجال العصابات درجة ثانية اسمه جوني بنانو حين سأله القاضي ليشهد بحق آل قال بنانو: " والله هو من أطيب الناس".
تمت المقابلة في جناح بفندق لكسنكتن الذي كني بالحصن لأن كابوني كان من نزلائه الدائمين وعادة حينما يكون هناك يكون مفارز شرطة النجدة في إنذار درجة قصوى بالمنطقة . بعد عشرين يوما من هذه المقابلة الصحفية القي القبض على كابوني وادخل السجن حيث قضى 11 عاما متنقلا في السجون ومن جملتها سجن الكتراز، حيث كان السجناء من الذين هم أقارب أناس اعتدى كابوني عليهم أيام عزه يوسعونه بالضرب . وهكذا حين أطلق سراحه كان قد فقد هيبته وسطوته وصحته وعاد للعيش مع عائلته حتى أن مات بمرض عضال في عام 1947 في المنزل الوحيد الذي بقي باسمه في مدينة ميامي .
قبل أن يصعد الصحفي فاندربلت لإجراء هذه المقابلة في غرفة كابوني ترك رسالة في الاستقبال وفيها تعليمات أن لا تفتح الرسالة إلا بعد موعد معين أو حين يستردها هو بنفسه . ويبدو أنها كانت وصيته لأنه حسب اعتقاده من يدخل على آل كابوني لا يخرج سالماً . ولكن ثبت العكس ، فبعد بعض المخاوف والتوجسات اندمج في الحديث مع آل كابوني . وفي الأخير دعاه آل كابوني إلى عشاء وبعد ساعتين والصحفي على وشك المغادرة رن جرس الهاتف ، التقط آل كابوني السماعة وبعد حديث وجيز قدم السماعة للصحفي ليتحدث إلى مدير الشرطة وكابوني يقول له : " تعتقد الشرطة أني اختطفتك "، وكان مدير شرطة البلدة بات روخ على الهاتف .
" يا جماعة نحن لازم نتعاون". هذا ما كان يقوله آل كابوني دائماً ، وهذه هي عبارته المفضلة .
كنت وكابوني جالسين وكان الوقت الرابعة عصر يوم الخميس 21/8/1931، حين رن جرس الهاتف ثانية ورفع كابوني السماعة وبعد حديث استغرق دقائق ، اقفل الهاتف والتفت إلي يقول : " المكالمة من مدير شركة البلدة بات روخ وهو يطلب معاونتي للعثور على مختطف اسمه لنج ويريد المختطفون فدية بمبلغ 250 ألف ". رفع كابوني السماعة وتحدث إلى جماعة في الهاتف . وقبل منتصف ليلة اليوم نفسه كان لينج طليقاً دون دفع فلس للفدية . قال كابوني معلقا : " أنا رجل مبادئ واحد مبادئي هي الوقوف ضد الاختطاف ".
وهنا أشعل لنفسه جروت هافانا ، ولأني غير مدخن فاني اعتذرت عن تدخين الجروت الذي قدمه لي . ثم أردف قائلا : " سيكون شتاء باردا للغاية وعلينا أن نعمل من اجل المعوزين الذين لا أحب أن أراهم يبردون في ليالي الشتاء وعلينا أن لا ننتظر الرئيس هوفر والحكومة كي يوزعوا معونة الشتاء على الناس ونحن يجب أن نسبقهم فالبرد ظالم والناس مساكين . هذا جانب من حربنا ضد العوز والحاجة ، وحربنا الأهم هي التصدي للشيوعيين ، ويجب أن ننظم أنفسنا وهكذا فالعوز ومناهضة الشيوعيين بحاجة إلى تمويل وأنا الممول الأول قبل الرئيس هوفر وقبل الكونجرس وقبل أي شخص آخر. يجب أن نحمي بلدنا ". هل كنت اسمع صحيح ؟ هل كنت مالكا لحواسي ؟ إذ هنا في غرفة مسحوبة الستائر ومطلة على الشارع العام ، كان يجلس أعظم زعيم عصابات في مكتبه وكأنه مدير بنك ، وفعلا لديه موهبة إداري كبير ناجح ، ويتلقى ضيوفه بمصافحة يشعر المرء بدفئها ينزل إلى قلبه وحين يصافح فانه يكمش الضيف بكل ضيافة وصدق وإخلاص . لم أكن أحس مع اقرب أقاربي وأصدقائي بمثل هذا . إنها لحظات تبعث النشوة في النفس لدرجة تدفع المرء أن يتصالح مع الحياة . لكابوني ابتسامة ساحرة تنبعث من أعماق قلبه مثل ضوء كوكب يصل ألينا قادما من مسافة ملايين السنين الضوئية : من أعماق المجرة . وهو لا يتحدث بشكل نمطي مضجر. لقد تحدث إلي أحاديث لم اعتد عليها واني اعتبر نفسي محظوظا أني سمعتها .
وبعد أن صاح لنا على شاي ، تحدث قائلا : " إن كانت المكننة الحديثة ستجعل العامل البسيط المسكين يفقد عمله ، فعلينا أن نجد له البديل وسوف يتأذى خلال فترة التحول الصناعي والآلي وهكذا علينا أن نرعاه . علينا أن نبعده عن الأدبيات الحمراء ، علينا أن ننقذ عقله من التلوث الأحمر". وهنا صدر من الشارع صوت صبي يبيع جريدة المساء ، وهو يصيح : " مدير الشرطة يلقي القبض على آل كابوني". هنا التفت إلي آل كابوني باسما وقال : " بات روخ رجل طيب لكن يجب أن يظهر اسمه في الجرائد .. وأنا من ناحية يلعنني الناس حين تحدث أمور سيئة ولا احد يذكرني بالطيب حيث تصدر مني أفعال حميدة ، ما العمل بالله عليك ؟ ".
هو ذا آل كابوني الذي دوخ الناس في زمانه مات آل كابوني عن عمر 48 سنة نفس عمر الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم . وكان أبا حنونا وزوجا رءوفا على عكس معاصره جوزيف ستالين الذي كان غليظ القلب حيث طرد ابنه يعقوب من البيت وزوجته الثانية انتحرت بسبب قساوته وابنه الأصغر انتهى سكيرا عربيدا يتمدد في الطرقات وابنته لجأت إنسانيا في انكلترا .
جارلـــز مانـــسن
في ليلة 8 أغسطس 1969 كان عند شارون تيت الحامل في شهرها الثامن عددا من الضيوف بمنزلها في شارع سيئيلو وكان من جملة الضيوف فويتك فرايكاوسكي وهو صديق قديم لبولانسكي منذ أيام المدرسة في لودز ببولندا . كان فرايكاوسكي عاطلاً عن العمل ويعتاش على صداقته مع بولانسكي وهو ينشد لذته بالسكر بالمسكالين . كانت بصحبته ابيكيل فولجر وهي فتاة ثرية في السابعة والعشرين ووريثة والدها تاجر قهوة مليونير. وأخيراً كان هناك جي سيبرنك البالغ من العمر 26 سنة وهو حلاق شهير وكان في زمن ما خطيب شارون تيت .
خرج الجميع للعشاء في مطعم آل كويتيو وحينما عادوا ذهبت فولجر إلى الفراش لوحدها ، بينما استلقى فرايكاوسكي على الأريكة في غرفة الاستقبال وغطى نفسه بالعلم الأمريكي بين واتسن : " أنا الشيطان وأنا هنا للقيام بعمل الشيطان ".
وعلى الرغم من انه لم يستفق تماما من الخدر الذي كان فيه منذ تعاطيه المخدرات في الليلة السابقة ، نهض فرايكاوسكي من الفراش وانطلق راكضا وكأنه غزال في محاولة يائسة منه للفرار، ولكن سرعان ما ألقى القتلة القبض عليه من رقبته ومن ثم جاءوا بالبقية إلى غرفة الاستقبال . كانت شارون تيت ترتدي رداء نوم من نوع البكيني . حاول سيبرك الفرار فأطلق عليه واتسن رصاصة أردته قتيلا ، وقال لهم واتسن : " ستموتون جميعكم ".
طعنت سوزان اتكنز وسكي فرايكا وسكي ست مرات بينما هو يحاول بيأس الإفلات من قبضة الجماعة وتبعه واتسن وهو في آخر محاولة يائسة له للخروج إلى الباحة الخارجية وضربه واتسن على رأسه بأخمص مسدسه ، ثم استدار نحو فولجر وتيت . حاولت فولجر المساومة على حياتها بان عرضت عليهم حسابها في المصرف وأعطتهم جميع بطاقات الائتمان المصرفية التي لديها بينما توسلت إليهم تيت قائلة : " كل ما أريده هو أن ألد طفلي "، فأجابتها اتكنز: " لا يوجد لدي رحمة تجاهك يا امرأة ". حاولت فولجر الهرب عبر الباب الخلفي لكن سرعان ما أدركها واتسن وقتلها ، ثم عاد ليتم انجاز المهمة وذلك بطعن تيت حتى الموت . خرج الجميع وعلى الباب الخارجي كتبت سوزان اتكنز بحروف كبيرة كلمة " خنازير".
اكتشفت الخادمة الجثث صباح اليوم التالي وأخبرت الشرطة والمستشفى وحضر الأطباء ليجدوا كل شيء قد فات أوانه .
كانت هذه الأحداث بإيعاز من شخص لم يحضرها ولم يقم بها وهو جارلز مانسن ، ولقد القي القبض عليه بعد اقل من أربعة شهور ، وقدم للمحاكمة وحكمت عليه المحكمة بالسجن المؤبد وهو ما يزال لحد اليوم نزيل احد السجون في لوس أنجلس .
الملحق 1
قبل حوالي سنتين نشرت جريدة الراية في الدوحة تحقيقاً عن دور وأهمية الكتب في حياتنا وثقافتنا وكانت الأحاديث التي أدلى بها المشاركون بالتحقيق تطري وتشيد بدور الكتب وأهميتها وعلى الفور كتبت رسالة من دون الإفصاح عن هويتي وأرسلتها إلى محرر الصفحة الزميل العزيز عبد الله الحامدي وأنا لم اقصد النشر. أبدو من رسالتي أني من اشد الكارهين للكتب وهذا عكس واقع الحال وهو أمر اكتشفه السيد الحامدي بسهولة . وبعدها أرسلت له ثلاث رسائل أخرى وكذلك من دون الإفصاح عن هويتي. وفيما يلي هذه الرسالة يعقبها الرسائل الثلاث التي كتبتها بعدها . أشار محرر الصفحة إلى أنني قد أكون قد حجبت اسمي لأغراض أمنية ولكني أوضحت له بأنني سأفاجئه بزيارة بمكتبه احد الأيام وهذا ما فعلاً حصل فيما بعد .
تحية طيبة وبعد،،
تعقيبا على " مقالكم" " الكتب عالم ساحر.." في الراية الغراء يوم الأربعاء 28 مايو 2003 هاهنا بعض الملاحظات:
أولا :
1- يقول روسو أن الفنون والآداب والعلوم والكتب تكبل حرية الإنسان وتقلص فرص حصوله على السعادة .
2- أواخر حياته قام التوحيدي وحرق كتبه لاعنا كل ساعة قضاها في كتابتها .
3- صورة الإنسان المثالي لدى الأديب المسرحي السويدي سترند برك هي البرهمي الذي حين يبلغ العشرين يتزوج وينجب طفلا ثم يذهب إلى البرية يتأمل روحه .. بلا كتب .
4- على فراش الموت لعن ابن رشد الكتب وندم على حياته كمؤلف .
5- أوصى كافكا أن تُحرق كافة مؤلفاته بعد موته .
ثانياً : المؤلفون والقراء هم على حد سواء أناس أنانيون إذ يفضلون كتبهم على أسرهم والناس من حولهم . وهم كذلك فاشلون في عالم الواقع ولهذا يجدون في الكتب ملاذا ومهربا لهم ولهذا أوصي الجميع ألا يزوجوا بناتهم لمحبي الكتب إذ هم كمحبي الخيول والطيور ولعب القمار ، لا يلتفتون إلى احد حتى زوجاتهم أو أولادهم .
ثالثاً : المؤلفون والقراء أناس نظريون خاملون كسالى يريدون من يقوم على خدمتهم وتقديم الطعام لهم وهم جالسون ، ومع ذلك نحن السذج نحترمهم ونكرمهم وهم جراء جهلنا يصبحون من أصحاب الملايين والأملاك والسفر والأبهة . كلنا كي نحصل على قوتنا نتعب بينما المؤلفون يتلذذون بعملهم ويحصلون على الملايين ونحن نكافح من اجل الحصول على ما يسد رمقنا بشق الأنفس .
رابعاً : حبّابو الكتب متشدقون متفيقهون نرجسيون يعيشون في جنة مغفلين ويعتقدون أنهم من سلالة السوبرمن وهم يعيشون في قوقعة يحسون فيها بعظمة الذات والرضا عن النفس . وفي الأخير في رواية فولتير الصادق التي تدور أحداثها في بابل القديمة يقول لنا فولتير، وهو نفسه حبّاب كتب رهيب ، إن امرأة عجوز أمية تعيش بتواصل مع أسرتها وجيرانها هي خير من مثقف حبّاب كتب منقطع في عالمه الداخلي .
مع تحياتي
التوقيع
أنشودة التضرع على طريقة هوميروس في الإلياذة
أنا لا احجب اسمي لسبب أمني أو ما إلى ذلك ، فقط لأن أضواء الشهرة مثل شمس هذه الأيام تصيبني بالحساسية ، وديدني بذلك مثل صموئيل بيكت الذي حين أذاعوا اسمه بالراديو انه فاز بنوبل 1969 هرع وحجز على أول طائرة مغادرة من باريس وذهب وجلس في مقهى شعبي بتونس بعيداً عن أضواء الشهرة . ومن يدري، لعلي سأطرق بابك يوم ما ونجلس سوية نحتسي الشاي السليماني وحبذا لو أنك أخرجت سيكارة ودخنتها لأني تارك التدخين منذ ربيع 1991 والحقيقة أني لم اترك السيكارة إنما هي التي تركتني مثلما قال برنارد شو عن لحيته : " أنا لم ارب لي لحية ، اللحية هي نبتت من تلقاء ذاتها ".
من ناحية الكتب والأدب والقراءة- أنا تركتهم وليسوا هم الذين تركوني . ومثل ادكار الآن بو ودستويفكسي وكافكا قمت برحلة داخل الجهاز العصبي المركزي البشري وفي ظني المتواضع- وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً - اكتشفت حقيقة طبيعة هذا الجهاز، وأثر ذلك تركت الكتب وأوقفت البحث وكتبت كلمة " مغلق" على ملف الطبيعة البشرية . أتصور أن كل ما كتب ويكتب وسيكتب يدور في حلقة مفرغة مثلما يحدث لبطل يوجين أونيل في مسرحيته الإمبراطور جونز ، وفي الأخير وجدت انه ينطبق على كل الأدب منذ كلكامش وحتى جبريل كارسيا ماركيز المقولة الشعبية " تيتي تيتي مثل ما رحت جيتي". وفعلاً هذه المقولة هي أساس ملحمة كلكامش حيث يعود محبطاً بعد طول عناء . لو كان حل المعضلة الإنسانية في الكتب لترك فلاحو دمياط مزارعهم وعمال سلخانات شيكاغو عملهم والسواق البنغلاديشيون تكسياتهم . هناك ملايين الناس من الذين لم يلتقوا بالكتاب إلا كمقرر مدرسي مفروض عليهم تراهم نجحوا في الحياة أيما نجاح وهو أن ذكرت لهم كلمات مثل شعر كتب أدب تراهم يهرشون جلودهم من المضايقة والانزعاج . وهناك ملايين تهفو نفوسهم للأدب والفن والثقافة وتراهم لا يتوفر لديهم وجبة الطعام القادمة .
وأخيراً أقول إن سر المعضلة الإنسانية هو هذا : السعادة موجودة حولنا في العالم مثل القوة الكهربائية ، لكن بينما القوة الكهربائية يمكن أن نحصل عليها وننعم بها بواسطة أسلاك وأجهزة صالحة لإيصال التيار الكهربائي ، فأن أسلاك الجهاز العصبي المركزي للإنسان لا تصلح لإيصال السعادة الموجودة حولنا . وما الأدباء إلا عمال كهرباء يحاولون وصل التيار الكهربائي لكنهم يخفقون لأن الجهاز العصبي المركزي للإنسان موصل سيء للسعادة ، وان تم وصل فهو مؤقت وهو حالة استثنائية بينما القاعدة هي انقطاع تيار السعادة . وهاهنا كل الرعب ، كما ينطق كورتز كلماته الأخيرة في رواية كونراد قلب الظلام قائلاً " الهول ! الهول ! ". نحن في قلب معضلة حقيقية .
برولوك على طريقة جوسر في "حكايات كانتربري"
أنا لا أمارس الكتابة من اجل النشر لكن كنوع من التواصل بين الناس وخاصة الغرباء منهم وديدني بذلك مثلما يأتي في الجملة الأخيرة بمسرحية تينيسي وليامز عربة اسمها الرغبة على لسان البطلة المنهارة بلانش ديبوا حين تقول للطبيب والممرضة اللذين جاءا يأخذانها إلى المصحة : " طالما اعتمدت على مساعدة الغرباء". ومن الصدف الهامة إن بلانش الشخصية الخيالية وأنا من مواليد 15 سبتمبر. ستجد إني دائما أُحدث تداخل بين الكتب وبيني .
صار لي [بادئ ذي بدء أرجو المعذرة على استعمال العامية أحيانا ، وهذه مسألة ليست أصلا من دون تخطيط ، إذ أني عامدا أدخل العامية فيما اكتب لسببين ، أولهما لأن العامية أحيانا تكون أكثر تعبيراً ومصداقية من الفصحى - أتصور إن أول من مارس الكتابة استخدم العامية - وحتى شكسبير (حتى أنت يا شكسبير؟) استعملها في مسرحياته حتى في التراجيديات الأربع العظام . وطبعاً أعظم من استعمل العامية في الشعر (نعم أعظم من شكسبير وملتن) هو شاعر القرن السابع عشر جون دون (صدرت له مجموعة جيدة بالترجمة العربية في العام الماضي) . والسبب الثاني لاستعمالي العامية (وهو السبب الأهم) هو لإعطاء ما اكتب (وهذه أرقى غاية لأية كتابة من وجهة نظري) روح المحادثة . إذ " في ملتي واعتقادي" (حسب تعبير شاعرنا الأعظم المعري) إن أعظم وأهم وظيفة للأدب هي خلق هذه الروح المحادثية ... لم ينته الموضوع ، ولكن نظراً لمجيء الصفحة على نهايتها يجب أن اخرج من القوس المضلع لأكمل قولي] : صار لي زمان وأنا أريد احارشكم بالكتابة ، ولعلمكم فأن هذه الحرشة ليست عدوانية إنما بدافع المحبة ولو إنها محبة من النوع السينيقي لأني مؤمن بان الإنسان مدفوع بأنانيته لعمل أي شيء مهما كان هذا العمل خيراً حتى في محبته لان المحبة تعود عليه بالإحساس بالفرح ولو في الوقت نفسه (وهذا، وا أسفاه ، دليل على تقلب الإنسان واختياره ما يحلو له) هناك بهجة في الكره ، والحق لعلها أقوى من المحبة . وللألمان في لغتهم كلمة خاصة بهذه الحالة الشعورية شادن فرويدا- أنا لا أحسن الألمانية لكن اعرف أن المقطع الثاني من هذه الكلمة فرويدا كما قرأته في نص " أنشودة الفرح " للشاعر شيلر الذي كتبه لختامية السمفونية التاسعة لبيتهوفن ، طبعاً حسب طلب الموسيقار الأطرش . وفي مجال العواطف المتحكمة بالقلب البشري ، يقول تينيسي وليامز إن أكثر العواطف ثباتا في القلب البشري هي ليست عاطفة الحب ، إذ طالما يتقلب القلب في حبه ، إنما هي عاطفة الغضب .
في الوقت الذي انصرفت فيه عن اكتشاف الدهشة في الكتب - أتى علي حين من الدهر أنقذتني الكتب من اليأس أو على الأقل الحزن وكما تغني وردة الجزائرية "رجعوا لي ابتسامتي" – فاني ما أزال أجد نفسي منجذباً لكتابين أو ثلاثة بالذات : أقرأهم ليس من اجل الفائدة والحكمة ولكن من اجل التسلية واللذة ، مثل طفل عابث يشتهي قطعة آيس كريم ليس للتغذية إنما للذة . ومن ناحية أخرى ، وأنت اكتشفت هذه النقطة ، أصبحت الكتب بالنسبة لي مثل علكة لبان في فم مراهقة تلوكها بغنج وبغددة ثم تنفخها على شكل كرة ثم تقوم بطق الكرة وتعود تلتهمها لتلوكها من جديد وهي بغاية السيطرة على الموقف . عزيزي : هذه الصور والتشبيهات والإشارات إلى المصادر والكتب هي حالة شعورية تصيبني وتكبلني عن الاستمرار في الكتابة وهي تستحوذ علي بالرغم مني ولا املك إلا الخضوع لها وهي في ازدحامها في مخيلتي تذكرني الآن بالشاعر جون ملتن الذي في قصيدته العصماء الفردوس المفقود يستعير صورة تشبيهية من العهد القديم حيث مذكور قدوم جراد بعدد يفوق المليارات بحيث من كثرة عدده قلب رابعة النهار إلى ليل دامس أيام الفرعون ، كذلك ، يقول ملتن ، سقط إبليس وإتباعه بعدد أولئك الجراد من عدن إلى أسفل سافلين .
الكتاب الأول هو الإخوة كارامازوف (قرة مازوف حسب النطق التتري الأصلي) . انه بالنسبة لي أمتع وألذ واضحك كتاب في الدنيا. حينما قرأته ربيع 1990 وكنت في فترة حداد على زوجتي الأولى . قلت لنفسي سأقرأ الأخوة عسى ألقى في تراجيدتهم سلوى لمحنتي الشخصية . لكن ما حدث هو أني ولوحدي بالدار كنت أنفجر ضاحكاً بشكل مسموع وخاصة عند حوار الأب فيودور كارامازوف وحديثه عن الخطاطيف في جهنم ، وبمفارقة ابليسية تموت زوجته الأولى . وهكذا عشت وتحسست محنته كيف انه حينما كان يسكر كان يهرع إلى الشارع ليصيح : " والآن حررت عبدك يا رب ". تالله هاهنا قمة الكوميديا بملابس الحداد ، أما حوارات الأب مع ابنه الأكبر دمتري أمام القس زوسيما فحتى شكسبير الكبير لا يعرف الطريق إلى عظمتها خاصة حينما يصاب الأب زوسيما بالحرج من شجار الأب كارامازوف وابنه دمتري فيقول لهما : " أيها السادة وخاصة أنت أيها الوالد المبجل ، كف عن الكذب و لو قليلاً ".
بعد كارامازوف قرأت دون كيشوت ناشداً الفكاهة والفرفشة إلا أني وجدته كتابا رتيباً مضجراً . إما الكتاب الثاني الذي ما يزال يجذبني فهو محاكمة كافكا . الله ، الله ، أسلوبه في وصفه المزدوج للعالم البرّاني الموضوعي كما هو من جهة ، ومن جهة أخرى للطريقة التي يتحسس بها الشخص هذا العالم ويعيشه ليس كما هو كوجود مطلق بل كخبرة شخصية انطباعية . خلال الرواية أحس بنفوق الروح البشرية حتى تلفظ نفسها الأخير ككلب . والكتاب الثالث هو هكذا تكلم زرادشت لنيتجه . يعجبني لقوته لعنفه لأجمل ساعات جنونه حسب الساهر نقلاً عن قباني . هذا الكتاب الرهيب (رهيب والله رهيب حسب أغنية عبد المجيد) الذي أتصور انه أشرس كتاب (حتى أكثر من كتب الماركيز دي ساد) له روح ذئب جريح يلعق جرحه وهو يعوي في دياجير الليل الذي توقعه نيتجه للبشرية في المستقبل ، في القرن العشرين وما بعده . وهذا العواء هو ليس عواء أَلم مستسلم لكن عواء أَلم متحد . نظر نيتجه في أفق مستقبل البشر فرأى الأفق طافحاً ليس بأشعة الشمس العسجدية بل بالدماء . أصابه الذعر في البداية لكنه سرعان ما قاوم الذعر وسيطر عليه ، وهكذا اخذ يضحك مجلجلاً في الشفق الدموي . تالله هذا الكتاب اعتبره كدواء مقوي للنورستانيا (الوهن العصبي) . من مقولاته : " كن كالبحر المحيط لا يكترث بالزبالة الملقاة عليه ".
في إحدى خبطاتي يوم أمس- كان بريخت يسمي المسرحية التي يجلس ليكتبها " خبطتي الجديدة "- ذكرت لك كيف أن الجهاز العصبي المركزي البشري موصل سيء للسعادة ، وبينما أتغدى اليوم وأنا ألوك اللقمة بفمي كنت ألوك بعقلي ما كتبته لك في الخبطة أعلاه فتذكرت عبارة مدام بوفاري : " إنها مسألة أعصاب". تقول بوفاري هذه العبارة لزوجها بعد أن تبدأ تحس بألم جراء عشقها لحبيبها ليون . حياتنا ومأساتنا هما مسألة أعصاب والإنسان ابن أعصابه . تأوهات هاملت ، آلام فرتر، أحزان جين اير، جنون الملك لير، هلوسات مكبث ، أوهام بطل قصة ادكار الان بو في قصة " الخنفساء الذهبية "، غثيان بطل سارتر، كلها مسالة أعصاب . الجهاز العصبي المركزي البشري معطوب من الأصل مثلما تشتري جهاز كهربائي فيه تماس كهربائي من المصنع وهو لا يصلح للعمل . لكن بينما بإمكاننا أن نرجع الجهاز الكهربائي ونستبدله بجديد ، لا نستطيع عمل الشيء نفسه بخصوص الجهاز العصبي البشري . أو كالولادة بإعاقة من الدرجة الأولى- ما نملك إلا أن نعيش بها ومعها . إذن الأدب كله هو وصف لحالات مختلفة من المشاعر والمواقف متأتية عن مسالة أعصاب . يقول برانديلو بشكل غير مباشر أو تلقيني في مسرحيته " 6 شخصيات تبحث عن مؤلف أن هناك خط عصبي في الجسم البشري يربط بين منطقة التفكير بالمخ وبين فتحة الشرج ، أي أن أسمى أفكار الإنسان من أدب وفن ومسرح وموسيقى هي مساوية لعملية قضاء الحاجة . لعنة الله عليك يا لويجي على هكذا فكرة . إذن زعيق هاملت : " نكون أو لا نكون تلكم هي المشكلة " ما هو إلا معادل موضوعي لشخص جالس في توالبت يحزق ليفرج كربته . وكذلك جوناثان سويفت في رحلات كلفر يؤكد الموضوع نفسه حينما تشكل بلدية مملكة الأقزام فرقة خاصة من عمالها لرفع فضلات كليفر من المنطقة والتخلص منه في البحر وكأنه نفايات نووية كيمياوية. الإحساس أو الانطباع الذي يحصل لمشاهد مسرحيات صموئيل بيكت هو أن الشخص البيكتي هو رجل محصور ولا يلقى تواليت بقضي حاجته فيه . شخصيات بيكت عليها نوع من ضغط أو كرب أو حرج أو محنة من هو محصور ولا يجد مكاناً ملائماً يفرغ محنته . وفعلاً كان بيكت طيلة حياته يعاني من قبض مزمن (إمساك) . وفلاديمير في في انتظار كودو تحصره البولة ويضع يده على موقع مثانته ويستنجد فيعلمه رفيقه استراكون أين التواليت . في نهاية مسرحية جون اوزبورن غربي السويس يتحدث بطل المسرحية حديثاً طويلاً (وهو أصلاً طبيب يعمل بالتحليلات المختبرية) ويقول من جملة ما يقول: " كل شيء في لندن هو براز ، حياتنا ، أعمالنا ، كلنا براز ، مثلنا ، أخلاقنا ، إمبراطوريتنا كلها براز وآخر كلمة ستبقى في اللغة الانكليزية هي كلمة براز ... ". كلام طويل مازلت اسمع صداه والممثل السير رالف ريتشاردسن يلقيه على خشبة مسرح الاولدفيك بلندن خريف 1972. أرجو المعذرة على هذه التفاصيل بهكذا موضوع غير محبذ . دخلت كلمة شت إلى وسائل الإعلام الانكليزية أواخر الستينات والآن نسمعها بشكل عادي في حوارات الأفلام وحتى المسلسلات العائلية وتبعتها كلمة فك التي سمعتها يوم أمس تخرج من فم بطلة فيلم قطارات الموت إعادتها حوالي ثلاث مرات على زعيم العصابة . حوالي سنة 1908 حين استعمل برنارد شو كلمة بلودي في مسرحيته بكماليون ثارت عليه الصحافة والكنيسة والحكومة مع أن هذه الكلمة لا تعني أكثر من لعين أو شيء من هذا القبيل . أعود وأقول لا حياء في العلم ومن حقنا كي نوضح فكرة ما إن نسمي الأشياء بأسمائها، من دون أن نخدش الحشمة أو نخل بالذوق . وهناك قانون طبيعي يجب أن نتقبله وهو جزء من دورة الحياة . لقد بدأت هذه الأسطر بعبارة ألوك اللقمة فكما أن اللقمة هي بالأخير تكون الفضلات فهكذا بدأت كتابتي بطعام وانتهت بالذهاب للتواليت. وقديما قبل أكثر من أربعين سنة كان عندنا في المحلة رجل سينيقي قال ذات مرة : " ما الإنسان إلاّ بالوعة وتواليت".
ما رافق سبرنك شارون إلى غرفة نومها .
خارج لوس انجليس وفي مزرعة سافن موفي التي تعج بالذباب وكان فيها ديكور مهجور لتمثيل احد الأفلام ، كان هناك ثمة ذئب منهمك بعمله : انه جارلز مانسن ، وهو سجين سابق والأب الروحي الكبير للأسرة التي كانت تسكن في تلك المزرعة . كان مانسن يضمر لتيري ميلجر كراهية وعداوة ، وكان يعرف أن ميلجر لم يعد يسكن في المنزل في شارع سيئيلو ، لكنه مع ذلك اصدر الأوامر أن يذهب أربعة من أفراد الأسرة لقتل كل من يجدونه هناك .
وفي عمق الليل وعلى الطريق المؤدية إلى منطقة بينيديكت كانيون كان يسوق السيارة جارلز " تيكس" واتسن البالغ من العمر 23 سنة ومعه يركب سوزان اتكنز البالغة 21 سنة وباتريشيا كرينونيكل البالغة 21 سنة ولندا كاسبيان البالغة 20 سنة وكانوا مسلحين بالسكاكين والمسدسات .
ولدى وصولهم المنزل قطعوا أسلاك الهاتف وقفزوا من فوق السور ودخلوا المنزل ، ولكنهم فجأة اندهشوا بأضواء ساطعة لسيارة كان يقودها ستيف بيرنت البالغ 18 سنة وهو صديق خادم المنزل المدعو وليام كاريستون والذي كان يعيش في غرفة خارج المنزل . أوقفوا سيارة بيرنت وأطلقوا على سائقها أربع رصاصات تركوه ورأسه ملقى على المقود . دخل القتلة الأربعة المنزل حيث كان الجميع نياماً .
فز فرايكاوسكي من نومته ليجد مقتحمي المنزل واقفين عند رأسه وسألهم وقد تملكته الدهشة عما كان يجري فأجابه
الماركــــيز دي ســـاد
لحياة السجن حسناتها فهي تفسح المجال للسجين ليتفرغ لأنشطة تحرمه منها حياته خارج السجن، وخير مثال على ذلك هو الماركيز دي ساد (1740-1814) إذ أمضى من حياته في السجن 28 عاما قضاها في التأليف والكتابة حيث كتب عدة روايات ومسرحيات علاوة على مقالات ورسائل .
بدأ دي ساد يكتب لغرض النشر بعد نقله إلى سجن الباستيل عام 1784 ولقد كتب أهم رواية له وهي جستين أو قهر الفضيلة ، كما وكتب العديد من المسرحيات التي كان يخرجها بنفسه ويمثل فيها على خشبة مسرح مصحة شارنتون ، ولو انه من ناحية اشتهر أكثر ما اشتهر بكتابة الرسائل من السجن إلى أصدقائه ومعارفه وخاصة الرسائل التي كان يكتبها لزوجته ، كما في هذه الرسالة : " تقولين أن أفكاري لا تروق للآخرين ، أو تحسبين إني اكترث ؟ فقط الحمقى والمغفلون هم من يفكرون بشكل يروق للآخرين ، إن طريقة تفكيري تنبع رأسا من تأملات متأنية : وهي قوام وجودي وتتلاءم مع طينتي وانه ليس بمقدوري أن أغيرها أو حتى لو كان بإمكاني ذلك فلن أغيرها . إن طريقة تفكيري هذه التي تعيّريني بها هي التي تغنيني عن ملذات العالم خارج السجن : وهي اعز على قلبي من الحياة نفسها. ليست طريقة تفكيري ولكن طريقة تفكير الآخرين هي إلي تسببت في تعاستي . إن الشخص الذي يسفه خطل آراء الأغبياء من الناس حتما سيصبح عدوا لهم ، وعليه أن يتوقع ذلك وبالتالي يضحك ساخرا على ما ليس منه بد . هناك ثمة مسافر يسير في طريق مليء بالفخاخ فيقع في واحد منها : أتقولين إن تلك هي غلطة المسافر أم خبث اللئيم الذي نصب الفخ ؟ وأنت حسبما تقولين لي ، أنهم مستعدون لإعطائي حريتي شريطة أن ادفع ثمنها بمبادئي وميولي فعلى علاقتنا أنت وأنا السلام لأني والله أنا مستعد أن أضحي بألف حياة وألف حرية على أن أتنازل عنها ، إني متعصب لمبادئي وميولي بشكل لا فكاك منه واني هاهنا أعلن على الملأ بأن لا طائل من أن يتحدث إلى احد عن الحرية إن كانت الحرية ستمنح لي لقاء خرابي".
حين قامت الثورة الفرنسية صباح 14 تموز(يوليو) 1789 كان دي ساد في سجن الباستيل جراء تهم لارتكابه جنح أخلاقية من جملتها جعل الشمع السائل في شمعة موقدة ينقط على جسم إحدى النساء ، ومحاولة تسميم امرأتين بدس عصارة ذباب اسباني في طعامهما . وحين قامت الثورة حسب دي ساد نفسه عليها ويدعي انه هو الذي أشعل فتيلها وذلك بان عصر اليوم السابق لاندلاعها اخذ القعادة التي كان يقضي حاجته بها في غرفته وثقبها وجعلها على هيئة بوق واخذ يصرخ عبر الثقب : " يا ناس قوموا ، يا قوم ثوروا "، وهكذا يقول قامت الثورة الفرنسية .
أطلق سراحه بعد الثورة وعمل إلى جانب الثوار واكل الخبز والملح معهم وكأن السبب بذلك ليس حباً بالشعب إنما لتحقيق مآربه الشخصية في الحصول على ملذاته التي كان معظمها يمارسها عن طريق إيقاع الأذى بالآخرين ، فهو كان يستمتع بتعذيب الآخرين وهكذا من اسمه اشتقت كلمة السادية ، ولو انه من ناحية أخرى كانت الشفقة والرحمة تملآن قلبه ففي فترة عينته الثورة بوظيفة مشرف على المستشفيات وكان يرفع التقارير إلى المسؤولين ، وكانت التقارير تنم عن حزنه لمشاهدة المرضى يتألمون حتى انه في إحدى المرات تقيأ دما حين رأي احد المرضى في حالة يرثى لها.
وسرعان ما تصادم مع رجال الثورة وأودع السجن ثانية وصدر عليه الحكم بالإعدام ، ولولا انشغال رجال الثورة بإعدام رفيقهم الثوري روبسبير لما نجا دي ساد من تنفيذ الحكم . وازداد أعداؤه عددا وحتى كان من جملتهم نابليون نفسه الذي أراد التخلص منه وذلك بان اصدر الأوامر بإيداع دي ساد مصحة شارنتون للأمراض العقلية وبقى حتى مات .
كان دي ساد كاتبا مدمنا لا يستطيع العيش من دون كتابة وحين كانت قرطاسيته تنفد كان يستعمل العيدان الخشبية للكتابة وحين لا تتوفر هذه كان يستعمل عظام الدجاج . وكان يكتب على كل شيء : على الحائط على الملابس على شراشف السرير ويكتب بكل شيء إن لم يتوفر الحبر وحتى انه في الأخير كتب مرة على الحائط بعظم دجاجة بفضلاته .
راسبـــــــوتين
كتب الناقد الروسي فكتور ايرونفيف وهو يعرض كتاب جديد عن راسبوتين : " يرقد راسبوتين نائما في قلب كل روسي وهو يستيقظ بين حين وآخر وان صادف وان استيقظ مرة ، تنطلق الحياة في الروح ويبدأ المرء بالتمتع بنوع قاس من اللذة لا تشبهه لذة أخرى جراء دخوله في حالة من الهياج والانحلال والانطلاق" . يقول راسبوتين في احد تعاليمه : " العنف هو بهجة الروح " .
باستطاعتي أن أشهر به ، اكره وجهه المبارك ولعلي أتصور أن أقوم واقلع هاتين العينين الثاقبتين الابليسيتين السماويتين من محجريهما واقطع صورته إلى قصاصات صغيرة ومن ثم أذيبه في حامض مذيب من الخلاعات، لكنه يبقى بطلي الشخصي ، قريبي . يرتدي راسبوتين القناع القديم للشامان الأصليين المؤمنين بقوى الروح الخفية .
لا شك عندي في أن راسبوتين كان راقدا في قلب ادفارد رادزنسكي الأديب المسرحي وكاتب السير الذاتية الروسي المعروف . قام رادزنسكي بإيقاظ راسبوتين وذلك بكتابة سيرة ذاتية عنه . وهو يعترف انه كان في السابق يخاف أن يكتب عن راسبوتين لأنه لم يفهمه . والآن بعد صدور هذا الكتاب الموثق جيدا بالأدلة ما يزال رادزنسكي لا يفهم راسبوتين أو بالأحرى هو لا يريد أن يفهمه لان فهم راسبوتين بحق هو أمر مخيف جدا ، وعليه من الأفضل تجنب فهمه .
لقد حقق رادزنسكي أهم واجب لأي كاتب سيرة ذاتية وهي انه بعث الروح في الشخصية وجعلها حية في مخيلة القارئ وتركها لوحدها مع القارئ . طالما تصرف راسبوتين بشكل ينم عن رغبة دفينة في تحطيم الذات وبأسلوب يحول دون تحقيق النجاح - ولكنه استطاع الحصول على كل ما كان يرغب فيه : القسوة و القوة والقدسية .
ولد كريكوري راسبوتين في شمالي سيبيريا لعائلة فلاحية فقيرة وكان ناحل البدن ، أشعث الشعر وحافي القدمين . بين نهاية انفه وشفته العليا مسار لمخاط ينزل بين الفنية والأخرى ولعدم توفر منديل لإزالته كان الصبي راسبوتين يسحب المخاط بشهقة معيدا إياه إلى الأنف تفاديا لدخوله فمه . كانت أعصابه قوية وأسنانه حادة ويده طويلة على أبيه وأب أي ولد في المحلة وكان كثير الشغب والعراك بالأيدي والأرجل والبصاق . كان قليل النوم ، ويقول انه إحدى المرات لم يستطع النوم لمدة أربعين يوما متواصلة إلا لسويعات قليلة وهكذا اتجه لطلب العون من القسس . كان يسير حافي القدمين من دير إلى دير وهو لا يغير ملابسه الداخلية كل ستة أشهر . وحج إلى بيت المقدس .
وتدريجيا وبعد ممارسات طقوسية في الزهد والورع اكتشف انه يمتلك قوى روحية نافذة وهكذا بدأ بمزاولة العزامة فكان يُعزّم على المرضى وخاصة النساء . وكان ناجحا في هذا المضمار حتى وصل صيته إلى زوجة القيصر الكساندرا فيودوروفنا ، وهكذا انفتحت أمامه أبواب القصر الإمبراطوري في موسكو وكان يدخل القصر كما كان يدخل بيته . وبعد ولادة أربع بنات ولدت الإمبراطورة ابنا ليكون وريث العرش اسمه اليكسي الذي كان يعاني من فقر الدم ورثه عن أمه . اخذ راسبوتين يعالج الطفل عن طريق الرقى والعزامة وكانت النتائج ناجحة بشكل باهر مما جعل الإمبراطورة تؤمن براسبوتين .
كان راسبوتين يكبر لينين بأقل من سنة ونصف فهو من مواليد عام 1869 . كان والده سكيرا وكانت أمه تعاني الكثير من زوجها ومن تربية خمسة أطفال ماتوا جميعهم قبل ولادة كريكوري الذي لم يتلق تعليما مدرسيا ولهذا بقي طوال حياته شبه أمي ويكتب بخط متعرج كلمات بتهجئة لا توجد في معاجم اللغة الروسية أو غيرها . وان هذا النزوع للأمية هو جزء من النفسية الروسية التي تنظر إلى المتعلمين . وطالما حلم تولستوي بحياة بسيطة من دون التعقيدات التي تأتي بها الكتب ، بينما كان راسبوتين يعيش حياة بسيطة منذ البداية . وعلاوة على ذلك هناك نظرة الإجلال والإكبار الروسية للصمت ، إذ أن السكوت هو من علامات النبوغ .
كان كريكوري راسبوتين مزيجا من دون جوان وميكافيلي وفيه صفات تدعو لمقارنته مع الماركيز دي ساد مع وجود فروقات جوهرية فبينما يمثل دي ساد الإرادة على تحدي القوانين من دون عقاب والتمتع بهذا العصيان يمثل راسبوتين ثالوث الخطيئة والتوبة والقدسية . مات راسبوتين بشكل عنيف : دسوا له السم في الطعام واكله ولم يمت ، أطلقوا عليه الرصاص ولم يمت ، ولم يمت إلا بضربة بلطة فجت رأسه إلى نصفين وكان ذلك سنة 1916 .
دج شــــــــولتز
كان آرثر فليخنخايمر ، المعروف باسم دج شولتز (شولتز الهولندي) غريبا على المجتمع الأمريكي فكان يميل للصمت ، وهذا ما جعل الآخرين ينفرون منه ، في الوقت الذي كان فيه العالم السفلي للعصابات يموج بشخصيات تثير الإعجاب مثل آل كابوني ، ليكزدايموند وقيصر الصغير . وفيما كان عنف العصابات يستمد ديمومته من زعماء الجريمة المنظمة الذين لم يُرفض لهم طلب ، كان شولتز قابعاً في زاويته . وبينما كان يتمخطر زعماء العصابات في أبهى البدلات المقلمة وأربطة العنق الحريرية كان شولتز وهو في أوج مجده حسب وصف صحيفة نيويورك تايمز: " يبدو كشحاذ قبيح الهندام .. فلقد كان سرواله منتفخاً وكانت ياقة معطفه الصغير هادلة ببعد عن رقبته .. ويبدو انه كان موهوبا في الظهور بمظهر الرجل الفاشل ". ومع ذلك فحينما مات برصاصات أطلقها عليه القاتلان المأجوران جارلي وركمن المُكَنَىَّ بالآفة وميندي فايس وكان ذلك في أواخر سنة 1935 كان قد أصبح أقوى رجل في عالم نيويورك السفلي . وبعد ثلاث سنوات قالت صحيفة التايمز: ".... أما سر جبروت شولتز الهولندي فهذا أمر سيبقى طي الكتمان .. كان شولتز نسيج وحده ، لا يشبهه احد ".
كشخصية دخلت عالم الأدب من احد الأبواب الخلفية كان شولتز على الشاكلة نفسها ، لا يشبهه احد ، فبمقارنته بكابوني وليكز دايموند فهو يظهر في عدد ضئيل من النصوص كما وان القليل منها ، ومن ضمنها كتابات ي.ل. دكتورو ووليم س. بوروز لا يمكن التعويل عليها كثيرا . ولكن من ناحية أخرى ، فبخلاف أي زعيم عصابة آخر معاصر له ، ترك شولتز وراءه " النص" الخاص بسيرته الذاتية . إن آخر كلمات دج شولتز وهي سيرته على فراش الموت أسست أدب العصابات القصصي لما بعد الحداثة ، وهي تبقى من أكثر الوثائق العصيّة على الفهم في مجال أدب السيرة الحياتية . أنها حقا وثيقة ذات أسلوب غريب دفعت بشولتز إلى عالم أدب العصابات . لكن كتابا مثل دوكتورو وبوروز اكتشفوا في هذا الأدب منجماً ثميناً لتقييم أدب السيرة الذاتية ومقياساً لتذبذب الخطاب الشخصي في سياق أدب إعلام العصابات .
إن تأليف الكلمات الأخيرة هو قصة بحد ذاتها ، ففي حوالي الساعة العاشرة والربع من مساء 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1935 ، تلقى شوتز رصاصة قاتلة استقرت في منطقة الزائدة الدودية بينما هو يتناول العشاء في مطعم قصر مشاوي الريش بمدينة نيو آرك . وبين إدخاله مستشفى المدينة بعد بضع دقائق من حادث اغتياله ووفاته بعد حوالي اثنتين وعشرين ساعة بعد ذلك ، اضطجع الهولندي وهو يهذي جراء إصابته بالتهاب منطقة الغشاء الحاجز في بطنه . وفي أثناء ذلك وبغية الحصول على أية معلومات لها علاقة بعملية الاغتيال كلّفت مديرية شرطة نيو آرك كاتب الاختزال ف.ل. لونك أن يجلس إلى جانب سرير شولتز ليدون كل ما يخرج من بين شفتيه . يبدو أن ما دونه لونك هو هراءات وكلام فارغ غير مترابط ، إذ يبدأ شولتز بلهجة الأمر: " لا تدع أي ثور يتحرك يا جورج "، وينتهي بلهجة الوعظ والإرشاد: " حساء البزاليا الفرنسي الكندي ، أريد أن ادفع ، دعهم يتركوني لوحدي". وان قرابة الألفي كلمة التي بين الجملة الأولى والجملة الأخيرة هي بمثابة محك للفهم والاستيعاب . وصفت مجلة تايم كلام شولتز بأنه " ثرثرة مدهشة ، بعضها يصل مستوى الشعر، وأكثرها تكهنية غيبية غامضة ".
حين نشرت صحيفة نيويورك تايمز النص في 26 تشرين الأول (أكتوبر) ، كان ذلك بداية تاريخ أدبي مشوش لكن رائع . كان هناك محاولة لتجميع الكلمات وصبها في مجرى ثقافي عام لتصبح ضمن النتاج الأدبي الحديث . وبينما يجد وليم بوروز في كلمات شولتز الأخيرة فرصة كي يفرز العنصر القصصي عن عنصر أدب السيرة الذاتية يعتبر كلا من روبرت موريس وي.ل. دوكتورو هذه الكلمات بمثابة مجمل مختصر للخطاب الأدبي لفترة ما بعد الحداثة وهو خطاب يتميز أكثر ما يتميز بالغموض .
آل كابـوني
مقابلة صحفية مع آل كابوني - في مجلة لبرتي (الحرية) 17/10/1931 أجراها كورنيليوس فاندربلت الابن
الفونسو كابوني (1899-1947) زعيم العصابة الشهير من مواليد حي بروكلين بنيويورك ، تلقى تعليمه المدرسي في إحدى مدارس نيويورك وكان معه في الصف زعيم العصابات الشهير لكي لوجينانو وبنفس الوقت صادق جون توريلا رجل العصابات المتمرس خارج المدرسة . عمل لفترة كقبضاي في احد المطاعم وكان عمله هو إخراج الزبائن الذين يأتون إلى المطعم وهم سكارى آخر الليل. تزوج فتاة ايرلندية ثم تلقى أوامر من توربو أن يلتحق به في شيكاغو وعملا سوية سعيا وراء الرزق . وبعد محاولة اغتيال تعرض لها توريو استلم آل قيادة المنظمة وعلى الفور قام بتصفية العصابات الايرلندية والبولندية واليهودية المناوئة له . وفي فترة نهاية العشرينات حين صدر قانون تحريم الخمور عمل آل في تهريب الخمور من كندا إلى أمريكا وجنى أموالا طائلة من وراء ذلك وهي التي أرست قواعده وجعلت منه الرجل الأسطوري المعروف . لكن الذين يعرفونه عن كثب يقولون انه لطيف المعشر مرحب بالضيوف وخاصة الصحفيين ويمد يد المساعدة للمحتاجين وهو أب حاني على أولاده ومحب لزوجته ويقدس حياة الأسرة والبيت وشعاره : " كل من لا يحب بيته وعائلته فهو رجل فاشل وبائس". وفي محاكمة احد رجال العصابات درجة ثانية اسمه جوني بنانو حين سأله القاضي ليشهد بحق آل قال بنانو: " والله هو من أطيب الناس".
تمت المقابلة في جناح بفندق لكسنكتن الذي كني بالحصن لأن كابوني كان من نزلائه الدائمين وعادة حينما يكون هناك يكون مفارز شرطة النجدة في إنذار درجة قصوى بالمنطقة . بعد عشرين يوما من هذه المقابلة الصحفية القي القبض على كابوني وادخل السجن حيث قضى 11 عاما متنقلا في السجون ومن جملتها سجن الكتراز، حيث كان السجناء من الذين هم أقارب أناس اعتدى كابوني عليهم أيام عزه يوسعونه بالضرب . وهكذا حين أطلق سراحه كان قد فقد هيبته وسطوته وصحته وعاد للعيش مع عائلته حتى أن مات بمرض عضال في عام 1947 في المنزل الوحيد الذي بقي باسمه في مدينة ميامي .
قبل أن يصعد الصحفي فاندربلت لإجراء هذه المقابلة في غرفة كابوني ترك رسالة في الاستقبال وفيها تعليمات أن لا تفتح الرسالة إلا بعد موعد معين أو حين يستردها هو بنفسه . ويبدو أنها كانت وصيته لأنه حسب اعتقاده من يدخل على آل كابوني لا يخرج سالماً . ولكن ثبت العكس ، فبعد بعض المخاوف والتوجسات اندمج في الحديث مع آل كابوني . وفي الأخير دعاه آل كابوني إلى عشاء وبعد ساعتين والصحفي على وشك المغادرة رن جرس الهاتف ، التقط آل كابوني السماعة وبعد حديث وجيز قدم السماعة للصحفي ليتحدث إلى مدير الشرطة وكابوني يقول له : " تعتقد الشرطة أني اختطفتك "، وكان مدير شرطة البلدة بات روخ على الهاتف .
" يا جماعة نحن لازم نتعاون". هذا ما كان يقوله آل كابوني دائماً ، وهذه هي عبارته المفضلة .
كنت وكابوني جالسين وكان الوقت الرابعة عصر يوم الخميس 21/8/1931، حين رن جرس الهاتف ثانية ورفع كابوني السماعة وبعد حديث استغرق دقائق ، اقفل الهاتف والتفت إلي يقول : " المكالمة من مدير شركة البلدة بات روخ وهو يطلب معاونتي للعثور على مختطف اسمه لنج ويريد المختطفون فدية بمبلغ 250 ألف ". رفع كابوني السماعة وتحدث إلى جماعة في الهاتف . وقبل منتصف ليلة اليوم نفسه كان لينج طليقاً دون دفع فلس للفدية . قال كابوني معلقا : " أنا رجل مبادئ واحد مبادئي هي الوقوف ضد الاختطاف ".
وهنا أشعل لنفسه جروت هافانا ، ولأني غير مدخن فاني اعتذرت عن تدخين الجروت الذي قدمه لي . ثم أردف قائلا : " سيكون شتاء باردا للغاية وعلينا أن نعمل من اجل المعوزين الذين لا أحب أن أراهم يبردون في ليالي الشتاء وعلينا أن لا ننتظر الرئيس هوفر والحكومة كي يوزعوا معونة الشتاء على الناس ونحن يجب أن نسبقهم فالبرد ظالم والناس مساكين . هذا جانب من حربنا ضد العوز والحاجة ، وحربنا الأهم هي التصدي للشيوعيين ، ويجب أن ننظم أنفسنا وهكذا فالعوز ومناهضة الشيوعيين بحاجة إلى تمويل وأنا الممول الأول قبل الرئيس هوفر وقبل الكونجرس وقبل أي شخص آخر. يجب أن نحمي بلدنا ". هل كنت اسمع صحيح ؟ هل كنت مالكا لحواسي ؟ إذ هنا في غرفة مسحوبة الستائر ومطلة على الشارع العام ، كان يجلس أعظم زعيم عصابات في مكتبه وكأنه مدير بنك ، وفعلا لديه موهبة إداري كبير ناجح ، ويتلقى ضيوفه بمصافحة يشعر المرء بدفئها ينزل إلى قلبه وحين يصافح فانه يكمش الضيف بكل ضيافة وصدق وإخلاص . لم أكن أحس مع اقرب أقاربي وأصدقائي بمثل هذا . إنها لحظات تبعث النشوة في النفس لدرجة تدفع المرء أن يتصالح مع الحياة . لكابوني ابتسامة ساحرة تنبعث من أعماق قلبه مثل ضوء كوكب يصل ألينا قادما من مسافة ملايين السنين الضوئية : من أعماق المجرة . وهو لا يتحدث بشكل نمطي مضجر. لقد تحدث إلي أحاديث لم اعتد عليها واني اعتبر نفسي محظوظا أني سمعتها .
وبعد أن صاح لنا على شاي ، تحدث قائلا : " إن كانت المكننة الحديثة ستجعل العامل البسيط المسكين يفقد عمله ، فعلينا أن نجد له البديل وسوف يتأذى خلال فترة التحول الصناعي والآلي وهكذا علينا أن نرعاه . علينا أن نبعده عن الأدبيات الحمراء ، علينا أن ننقذ عقله من التلوث الأحمر". وهنا صدر من الشارع صوت صبي يبيع جريدة المساء ، وهو يصيح : " مدير الشرطة يلقي القبض على آل كابوني". هنا التفت إلي آل كابوني باسما وقال : " بات روخ رجل طيب لكن يجب أن يظهر اسمه في الجرائد .. وأنا من ناحية يلعنني الناس حين تحدث أمور سيئة ولا احد يذكرني بالطيب حيث تصدر مني أفعال حميدة ، ما العمل بالله عليك ؟ ".
هو ذا آل كابوني الذي دوخ الناس في زمانه مات آل كابوني عن عمر 48 سنة نفس عمر الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم . وكان أبا حنونا وزوجا رءوفا على عكس معاصره جوزيف ستالين الذي كان غليظ القلب حيث طرد ابنه يعقوب من البيت وزوجته الثانية انتحرت بسبب قساوته وابنه الأصغر انتهى سكيرا عربيدا يتمدد في الطرقات وابنته لجأت إنسانيا في انكلترا .
جارلـــز مانـــسن
في ليلة 8 أغسطس 1969 كان عند شارون تيت الحامل في شهرها الثامن عددا من الضيوف بمنزلها في شارع سيئيلو وكان من جملة الضيوف فويتك فرايكاوسكي وهو صديق قديم لبولانسكي منذ أيام المدرسة في لودز ببولندا . كان فرايكاوسكي عاطلاً عن العمل ويعتاش على صداقته مع بولانسكي وهو ينشد لذته بالسكر بالمسكالين . كانت بصحبته ابيكيل فولجر وهي فتاة ثرية في السابعة والعشرين ووريثة والدها تاجر قهوة مليونير. وأخيراً كان هناك جي سيبرنك البالغ من العمر 26 سنة وهو حلاق شهير وكان في زمن ما خطيب شارون تيت .
خرج الجميع للعشاء في مطعم آل كويتيو وحينما عادوا ذهبت فولجر إلى الفراش لوحدها ، بينما استلقى فرايكاوسكي على الأريكة في غرفة الاستقبال وغطى نفسه بالعلم الأمريكي بين واتسن : " أنا الشيطان وأنا هنا للقيام بعمل الشيطان ".
وعلى الرغم من انه لم يستفق تماما من الخدر الذي كان فيه منذ تعاطيه المخدرات في الليلة السابقة ، نهض فرايكاوسكي من الفراش وانطلق راكضا وكأنه غزال في محاولة يائسة منه للفرار، ولكن سرعان ما ألقى القتلة القبض عليه من رقبته ومن ثم جاءوا بالبقية إلى غرفة الاستقبال . كانت شارون تيت ترتدي رداء نوم من نوع البكيني . حاول سيبرك الفرار فأطلق عليه واتسن رصاصة أردته قتيلا ، وقال لهم واتسن : " ستموتون جميعكم ".
طعنت سوزان اتكنز وسكي فرايكا وسكي ست مرات بينما هو يحاول بيأس الإفلات من قبضة الجماعة وتبعه واتسن وهو في آخر محاولة يائسة له للخروج إلى الباحة الخارجية وضربه واتسن على رأسه بأخمص مسدسه ، ثم استدار نحو فولجر وتيت . حاولت فولجر المساومة على حياتها بان عرضت عليهم حسابها في المصرف وأعطتهم جميع بطاقات الائتمان المصرفية التي لديها بينما توسلت إليهم تيت قائلة : " كل ما أريده هو أن ألد طفلي "، فأجابتها اتكنز: " لا يوجد لدي رحمة تجاهك يا امرأة ". حاولت فولجر الهرب عبر الباب الخلفي لكن سرعان ما أدركها واتسن وقتلها ، ثم عاد ليتم انجاز المهمة وذلك بطعن تيت حتى الموت . خرج الجميع وعلى الباب الخارجي كتبت سوزان اتكنز بحروف كبيرة كلمة " خنازير".
اكتشفت الخادمة الجثث صباح اليوم التالي وأخبرت الشرطة والمستشفى وحضر الأطباء ليجدوا كل شيء قد فات أوانه .
كانت هذه الأحداث بإيعاز من شخص لم يحضرها ولم يقم بها وهو جارلز مانسن ، ولقد القي القبض عليه بعد اقل من أربعة شهور ، وقدم للمحاكمة وحكمت عليه المحكمة بالسجن المؤبد وهو ما يزال لحد اليوم نزيل احد السجون في لوس أنجلس .
الملحق 1
قبل حوالي سنتين نشرت جريدة الراية في الدوحة تحقيقاً عن دور وأهمية الكتب في حياتنا وثقافتنا وكانت الأحاديث التي أدلى بها المشاركون بالتحقيق تطري وتشيد بدور الكتب وأهميتها وعلى الفور كتبت رسالة من دون الإفصاح عن هويتي وأرسلتها إلى محرر الصفحة الزميل العزيز عبد الله الحامدي وأنا لم اقصد النشر. أبدو من رسالتي أني من اشد الكارهين للكتب وهذا عكس واقع الحال وهو أمر اكتشفه السيد الحامدي بسهولة . وبعدها أرسلت له ثلاث رسائل أخرى وكذلك من دون الإفصاح عن هويتي. وفيما يلي هذه الرسالة يعقبها الرسائل الثلاث التي كتبتها بعدها . أشار محرر الصفحة إلى أنني قد أكون قد حجبت اسمي لأغراض أمنية ولكني أوضحت له بأنني سأفاجئه بزيارة بمكتبه احد الأيام وهذا ما فعلاً حصل فيما بعد .
تحية طيبة وبعد،،
تعقيبا على " مقالكم" " الكتب عالم ساحر.." في الراية الغراء يوم الأربعاء 28 مايو 2003 هاهنا بعض الملاحظات:
أولا :
1- يقول روسو أن الفنون والآداب والعلوم والكتب تكبل حرية الإنسان وتقلص فرص حصوله على السعادة .
2- أواخر حياته قام التوحيدي وحرق كتبه لاعنا كل ساعة قضاها في كتابتها .
3- صورة الإنسان المثالي لدى الأديب المسرحي السويدي سترند برك هي البرهمي الذي حين يبلغ العشرين يتزوج وينجب طفلا ثم يذهب إلى البرية يتأمل روحه .. بلا كتب .
4- على فراش الموت لعن ابن رشد الكتب وندم على حياته كمؤلف .
5- أوصى كافكا أن تُحرق كافة مؤلفاته بعد موته .
ثانياً : المؤلفون والقراء هم على حد سواء أناس أنانيون إذ يفضلون كتبهم على أسرهم والناس من حولهم . وهم كذلك فاشلون في عالم الواقع ولهذا يجدون في الكتب ملاذا ومهربا لهم ولهذا أوصي الجميع ألا يزوجوا بناتهم لمحبي الكتب إذ هم كمحبي الخيول والطيور ولعب القمار ، لا يلتفتون إلى احد حتى زوجاتهم أو أولادهم .
ثالثاً : المؤلفون والقراء أناس نظريون خاملون كسالى يريدون من يقوم على خدمتهم وتقديم الطعام لهم وهم جالسون ، ومع ذلك نحن السذج نحترمهم ونكرمهم وهم جراء جهلنا يصبحون من أصحاب الملايين والأملاك والسفر والأبهة . كلنا كي نحصل على قوتنا نتعب بينما المؤلفون يتلذذون بعملهم ويحصلون على الملايين ونحن نكافح من اجل الحصول على ما يسد رمقنا بشق الأنفس .
رابعاً : حبّابو الكتب متشدقون متفيقهون نرجسيون يعيشون في جنة مغفلين ويعتقدون أنهم من سلالة السوبرمن وهم يعيشون في قوقعة يحسون فيها بعظمة الذات والرضا عن النفس . وفي الأخير في رواية فولتير الصادق التي تدور أحداثها في بابل القديمة يقول لنا فولتير، وهو نفسه حبّاب كتب رهيب ، إن امرأة عجوز أمية تعيش بتواصل مع أسرتها وجيرانها هي خير من مثقف حبّاب كتب منقطع في عالمه الداخلي .
مع تحياتي
التوقيع
أنشودة التضرع على طريقة هوميروس في الإلياذة
أنا لا احجب اسمي لسبب أمني أو ما إلى ذلك ، فقط لأن أضواء الشهرة مثل شمس هذه الأيام تصيبني بالحساسية ، وديدني بذلك مثل صموئيل بيكت الذي حين أذاعوا اسمه بالراديو انه فاز بنوبل 1969 هرع وحجز على أول طائرة مغادرة من باريس وذهب وجلس في مقهى شعبي بتونس بعيداً عن أضواء الشهرة . ومن يدري، لعلي سأطرق بابك يوم ما ونجلس سوية نحتسي الشاي السليماني وحبذا لو أنك أخرجت سيكارة ودخنتها لأني تارك التدخين منذ ربيع 1991 والحقيقة أني لم اترك السيكارة إنما هي التي تركتني مثلما قال برنارد شو عن لحيته : " أنا لم ارب لي لحية ، اللحية هي نبتت من تلقاء ذاتها ".
من ناحية الكتب والأدب والقراءة- أنا تركتهم وليسوا هم الذين تركوني . ومثل ادكار الآن بو ودستويفكسي وكافكا قمت برحلة داخل الجهاز العصبي المركزي البشري وفي ظني المتواضع- وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً - اكتشفت حقيقة طبيعة هذا الجهاز، وأثر ذلك تركت الكتب وأوقفت البحث وكتبت كلمة " مغلق" على ملف الطبيعة البشرية . أتصور أن كل ما كتب ويكتب وسيكتب يدور في حلقة مفرغة مثلما يحدث لبطل يوجين أونيل في مسرحيته الإمبراطور جونز ، وفي الأخير وجدت انه ينطبق على كل الأدب منذ كلكامش وحتى جبريل كارسيا ماركيز المقولة الشعبية " تيتي تيتي مثل ما رحت جيتي". وفعلاً هذه المقولة هي أساس ملحمة كلكامش حيث يعود محبطاً بعد طول عناء . لو كان حل المعضلة الإنسانية في الكتب لترك فلاحو دمياط مزارعهم وعمال سلخانات شيكاغو عملهم والسواق البنغلاديشيون تكسياتهم . هناك ملايين الناس من الذين لم يلتقوا بالكتاب إلا كمقرر مدرسي مفروض عليهم تراهم نجحوا في الحياة أيما نجاح وهو أن ذكرت لهم كلمات مثل شعر كتب أدب تراهم يهرشون جلودهم من المضايقة والانزعاج . وهناك ملايين تهفو نفوسهم للأدب والفن والثقافة وتراهم لا يتوفر لديهم وجبة الطعام القادمة .
وأخيراً أقول إن سر المعضلة الإنسانية هو هذا : السعادة موجودة حولنا في العالم مثل القوة الكهربائية ، لكن بينما القوة الكهربائية يمكن أن نحصل عليها وننعم بها بواسطة أسلاك وأجهزة صالحة لإيصال التيار الكهربائي ، فأن أسلاك الجهاز العصبي المركزي للإنسان لا تصلح لإيصال السعادة الموجودة حولنا . وما الأدباء إلا عمال كهرباء يحاولون وصل التيار الكهربائي لكنهم يخفقون لأن الجهاز العصبي المركزي للإنسان موصل سيء للسعادة ، وان تم وصل فهو مؤقت وهو حالة استثنائية بينما القاعدة هي انقطاع تيار السعادة . وهاهنا كل الرعب ، كما ينطق كورتز كلماته الأخيرة في رواية كونراد قلب الظلام قائلاً " الهول ! الهول ! ". نحن في قلب معضلة حقيقية .
برولوك على طريقة جوسر في "حكايات كانتربري"
أنا لا أمارس الكتابة من اجل النشر لكن كنوع من التواصل بين الناس وخاصة الغرباء منهم وديدني بذلك مثلما يأتي في الجملة الأخيرة بمسرحية تينيسي وليامز عربة اسمها الرغبة على لسان البطلة المنهارة بلانش ديبوا حين تقول للطبيب والممرضة اللذين جاءا يأخذانها إلى المصحة : " طالما اعتمدت على مساعدة الغرباء". ومن الصدف الهامة إن بلانش الشخصية الخيالية وأنا من مواليد 15 سبتمبر. ستجد إني دائما أُحدث تداخل بين الكتب وبيني .
صار لي [بادئ ذي بدء أرجو المعذرة على استعمال العامية أحيانا ، وهذه مسألة ليست أصلا من دون تخطيط ، إذ أني عامدا أدخل العامية فيما اكتب لسببين ، أولهما لأن العامية أحيانا تكون أكثر تعبيراً ومصداقية من الفصحى - أتصور إن أول من مارس الكتابة استخدم العامية - وحتى شكسبير (حتى أنت يا شكسبير؟) استعملها في مسرحياته حتى في التراجيديات الأربع العظام . وطبعاً أعظم من استعمل العامية في الشعر (نعم أعظم من شكسبير وملتن) هو شاعر القرن السابع عشر جون دون (صدرت له مجموعة جيدة بالترجمة العربية في العام الماضي) . والسبب الثاني لاستعمالي العامية (وهو السبب الأهم) هو لإعطاء ما اكتب (وهذه أرقى غاية لأية كتابة من وجهة نظري) روح المحادثة . إذ " في ملتي واعتقادي" (حسب تعبير شاعرنا الأعظم المعري) إن أعظم وأهم وظيفة للأدب هي خلق هذه الروح المحادثية ... لم ينته الموضوع ، ولكن نظراً لمجيء الصفحة على نهايتها يجب أن اخرج من القوس المضلع لأكمل قولي] : صار لي زمان وأنا أريد احارشكم بالكتابة ، ولعلمكم فأن هذه الحرشة ليست عدوانية إنما بدافع المحبة ولو إنها محبة من النوع السينيقي لأني مؤمن بان الإنسان مدفوع بأنانيته لعمل أي شيء مهما كان هذا العمل خيراً حتى في محبته لان المحبة تعود عليه بالإحساس بالفرح ولو في الوقت نفسه (وهذا، وا أسفاه ، دليل على تقلب الإنسان واختياره ما يحلو له) هناك بهجة في الكره ، والحق لعلها أقوى من المحبة . وللألمان في لغتهم كلمة خاصة بهذه الحالة الشعورية شادن فرويدا- أنا لا أحسن الألمانية لكن اعرف أن المقطع الثاني من هذه الكلمة فرويدا كما قرأته في نص " أنشودة الفرح " للشاعر شيلر الذي كتبه لختامية السمفونية التاسعة لبيتهوفن ، طبعاً حسب طلب الموسيقار الأطرش . وفي مجال العواطف المتحكمة بالقلب البشري ، يقول تينيسي وليامز إن أكثر العواطف ثباتا في القلب البشري هي ليست عاطفة الحب ، إذ طالما يتقلب القلب في حبه ، إنما هي عاطفة الغضب .
في الوقت الذي انصرفت فيه عن اكتشاف الدهشة في الكتب - أتى علي حين من الدهر أنقذتني الكتب من اليأس أو على الأقل الحزن وكما تغني وردة الجزائرية "رجعوا لي ابتسامتي" – فاني ما أزال أجد نفسي منجذباً لكتابين أو ثلاثة بالذات : أقرأهم ليس من اجل الفائدة والحكمة ولكن من اجل التسلية واللذة ، مثل طفل عابث يشتهي قطعة آيس كريم ليس للتغذية إنما للذة . ومن ناحية أخرى ، وأنت اكتشفت هذه النقطة ، أصبحت الكتب بالنسبة لي مثل علكة لبان في فم مراهقة تلوكها بغنج وبغددة ثم تنفخها على شكل كرة ثم تقوم بطق الكرة وتعود تلتهمها لتلوكها من جديد وهي بغاية السيطرة على الموقف . عزيزي : هذه الصور والتشبيهات والإشارات إلى المصادر والكتب هي حالة شعورية تصيبني وتكبلني عن الاستمرار في الكتابة وهي تستحوذ علي بالرغم مني ولا املك إلا الخضوع لها وهي في ازدحامها في مخيلتي تذكرني الآن بالشاعر جون ملتن الذي في قصيدته العصماء الفردوس المفقود يستعير صورة تشبيهية من العهد القديم حيث مذكور قدوم جراد بعدد يفوق المليارات بحيث من كثرة عدده قلب رابعة النهار إلى ليل دامس أيام الفرعون ، كذلك ، يقول ملتن ، سقط إبليس وإتباعه بعدد أولئك الجراد من عدن إلى أسفل سافلين .
الكتاب الأول هو الإخوة كارامازوف (قرة مازوف حسب النطق التتري الأصلي) . انه بالنسبة لي أمتع وألذ واضحك كتاب في الدنيا. حينما قرأته ربيع 1990 وكنت في فترة حداد على زوجتي الأولى . قلت لنفسي سأقرأ الأخوة عسى ألقى في تراجيدتهم سلوى لمحنتي الشخصية . لكن ما حدث هو أني ولوحدي بالدار كنت أنفجر ضاحكاً بشكل مسموع وخاصة عند حوار الأب فيودور كارامازوف وحديثه عن الخطاطيف في جهنم ، وبمفارقة ابليسية تموت زوجته الأولى . وهكذا عشت وتحسست محنته كيف انه حينما كان يسكر كان يهرع إلى الشارع ليصيح : " والآن حررت عبدك يا رب ". تالله هاهنا قمة الكوميديا بملابس الحداد ، أما حوارات الأب مع ابنه الأكبر دمتري أمام القس زوسيما فحتى شكسبير الكبير لا يعرف الطريق إلى عظمتها خاصة حينما يصاب الأب زوسيما بالحرج من شجار الأب كارامازوف وابنه دمتري فيقول لهما : " أيها السادة وخاصة أنت أيها الوالد المبجل ، كف عن الكذب و لو قليلاً ".
بعد كارامازوف قرأت دون كيشوت ناشداً الفكاهة والفرفشة إلا أني وجدته كتابا رتيباً مضجراً . إما الكتاب الثاني الذي ما يزال يجذبني فهو محاكمة كافكا . الله ، الله ، أسلوبه في وصفه المزدوج للعالم البرّاني الموضوعي كما هو من جهة ، ومن جهة أخرى للطريقة التي يتحسس بها الشخص هذا العالم ويعيشه ليس كما هو كوجود مطلق بل كخبرة شخصية انطباعية . خلال الرواية أحس بنفوق الروح البشرية حتى تلفظ نفسها الأخير ككلب . والكتاب الثالث هو هكذا تكلم زرادشت لنيتجه . يعجبني لقوته لعنفه لأجمل ساعات جنونه حسب الساهر نقلاً عن قباني . هذا الكتاب الرهيب (رهيب والله رهيب حسب أغنية عبد المجيد) الذي أتصور انه أشرس كتاب (حتى أكثر من كتب الماركيز دي ساد) له روح ذئب جريح يلعق جرحه وهو يعوي في دياجير الليل الذي توقعه نيتجه للبشرية في المستقبل ، في القرن العشرين وما بعده . وهذا العواء هو ليس عواء أَلم مستسلم لكن عواء أَلم متحد . نظر نيتجه في أفق مستقبل البشر فرأى الأفق طافحاً ليس بأشعة الشمس العسجدية بل بالدماء . أصابه الذعر في البداية لكنه سرعان ما قاوم الذعر وسيطر عليه ، وهكذا اخذ يضحك مجلجلاً في الشفق الدموي . تالله هذا الكتاب اعتبره كدواء مقوي للنورستانيا (الوهن العصبي) . من مقولاته : " كن كالبحر المحيط لا يكترث بالزبالة الملقاة عليه ".
في إحدى خبطاتي يوم أمس- كان بريخت يسمي المسرحية التي يجلس ليكتبها " خبطتي الجديدة "- ذكرت لك كيف أن الجهاز العصبي المركزي البشري موصل سيء للسعادة ، وبينما أتغدى اليوم وأنا ألوك اللقمة بفمي كنت ألوك بعقلي ما كتبته لك في الخبطة أعلاه فتذكرت عبارة مدام بوفاري : " إنها مسألة أعصاب". تقول بوفاري هذه العبارة لزوجها بعد أن تبدأ تحس بألم جراء عشقها لحبيبها ليون . حياتنا ومأساتنا هما مسألة أعصاب والإنسان ابن أعصابه . تأوهات هاملت ، آلام فرتر، أحزان جين اير، جنون الملك لير، هلوسات مكبث ، أوهام بطل قصة ادكار الان بو في قصة " الخنفساء الذهبية "، غثيان بطل سارتر، كلها مسالة أعصاب . الجهاز العصبي المركزي البشري معطوب من الأصل مثلما تشتري جهاز كهربائي فيه تماس كهربائي من المصنع وهو لا يصلح للعمل . لكن بينما بإمكاننا أن نرجع الجهاز الكهربائي ونستبدله بجديد ، لا نستطيع عمل الشيء نفسه بخصوص الجهاز العصبي البشري . أو كالولادة بإعاقة من الدرجة الأولى- ما نملك إلا أن نعيش بها ومعها . إذن الأدب كله هو وصف لحالات مختلفة من المشاعر والمواقف متأتية عن مسالة أعصاب . يقول برانديلو بشكل غير مباشر أو تلقيني في مسرحيته " 6 شخصيات تبحث عن مؤلف أن هناك خط عصبي في الجسم البشري يربط بين منطقة التفكير بالمخ وبين فتحة الشرج ، أي أن أسمى أفكار الإنسان من أدب وفن ومسرح وموسيقى هي مساوية لعملية قضاء الحاجة . لعنة الله عليك يا لويجي على هكذا فكرة . إذن زعيق هاملت : " نكون أو لا نكون تلكم هي المشكلة " ما هو إلا معادل موضوعي لشخص جالس في توالبت يحزق ليفرج كربته . وكذلك جوناثان سويفت في رحلات كلفر يؤكد الموضوع نفسه حينما تشكل بلدية مملكة الأقزام فرقة خاصة من عمالها لرفع فضلات كليفر من المنطقة والتخلص منه في البحر وكأنه نفايات نووية كيمياوية. الإحساس أو الانطباع الذي يحصل لمشاهد مسرحيات صموئيل بيكت هو أن الشخص البيكتي هو رجل محصور ولا يلقى تواليت بقضي حاجته فيه . شخصيات بيكت عليها نوع من ضغط أو كرب أو حرج أو محنة من هو محصور ولا يجد مكاناً ملائماً يفرغ محنته . وفعلاً كان بيكت طيلة حياته يعاني من قبض مزمن (إمساك) . وفلاديمير في في انتظار كودو تحصره البولة ويضع يده على موقع مثانته ويستنجد فيعلمه رفيقه استراكون أين التواليت . في نهاية مسرحية جون اوزبورن غربي السويس يتحدث بطل المسرحية حديثاً طويلاً (وهو أصلاً طبيب يعمل بالتحليلات المختبرية) ويقول من جملة ما يقول: " كل شيء في لندن هو براز ، حياتنا ، أعمالنا ، كلنا براز ، مثلنا ، أخلاقنا ، إمبراطوريتنا كلها براز وآخر كلمة ستبقى في اللغة الانكليزية هي كلمة براز ... ". كلام طويل مازلت اسمع صداه والممثل السير رالف ريتشاردسن يلقيه على خشبة مسرح الاولدفيك بلندن خريف 1972. أرجو المعذرة على هذه التفاصيل بهكذا موضوع غير محبذ . دخلت كلمة شت إلى وسائل الإعلام الانكليزية أواخر الستينات والآن نسمعها بشكل عادي في حوارات الأفلام وحتى المسلسلات العائلية وتبعتها كلمة فك التي سمعتها يوم أمس تخرج من فم بطلة فيلم قطارات الموت إعادتها حوالي ثلاث مرات على زعيم العصابة . حوالي سنة 1908 حين استعمل برنارد شو كلمة بلودي في مسرحيته بكماليون ثارت عليه الصحافة والكنيسة والحكومة مع أن هذه الكلمة لا تعني أكثر من لعين أو شيء من هذا القبيل . أعود وأقول لا حياء في العلم ومن حقنا كي نوضح فكرة ما إن نسمي الأشياء بأسمائها، من دون أن نخدش الحشمة أو نخل بالذوق . وهناك قانون طبيعي يجب أن نتقبله وهو جزء من دورة الحياة . لقد بدأت هذه الأسطر بعبارة ألوك اللقمة فكما أن اللقمة هي بالأخير تكون الفضلات فهكذا بدأت كتابتي بطعام وانتهت بالذهاب للتواليت. وقديما قبل أكثر من أربعين سنة كان عندنا في المحلة رجل سينيقي قال ذات مرة : " ما الإنسان إلاّ بالوعة وتواليت".
ما رافق سبرنك شارون إلى غرفة نومها .
خارج لوس انجليس وفي مزرعة سافن موفي التي تعج بالذباب وكان فيها ديكور مهجور لتمثيل احد الأفلام ، كان هناك ثمة ذئب منهمك بعمله : انه جارلز مانسن ، وهو سجين سابق والأب الروحي الكبير للأسرة التي كانت تسكن في تلك المزرعة . كان مانسن يضمر لتيري ميلجر كراهية وعداوة ، وكان يعرف أن ميلجر لم يعد يسكن في المنزل في شارع سيئيلو ، لكنه مع ذلك اصدر الأوامر أن يذهب أربعة من أفراد الأسرة لقتل كل من يجدونه هناك .
وفي عمق الليل وعلى الطريق المؤدية إلى منطقة بينيديكت كانيون كان يسوق السيارة جارلز " تيكس" واتسن البالغ من العمر 23 سنة ومعه يركب سوزان اتكنز البالغة 21 سنة وباتريشيا كرينونيكل البالغة 21 سنة ولندا كاسبيان البالغة 20 سنة وكانوا مسلحين بالسكاكين والمسدسات .
ولدى وصولهم المنزل قطعوا أسلاك الهاتف وقفزوا من فوق السور ودخلوا المنزل ، ولكنهم فجأة اندهشوا بأضواء ساطعة لسيارة كان يقودها ستيف بيرنت البالغ 18 سنة وهو صديق خادم المنزل المدعو وليام كاريستون والذي كان يعيش في غرفة خارج المنزل . أوقفوا سيارة بيرنت وأطلقوا على سائقها أربع رصاصات تركوه ورأسه ملقى على المقود . دخل القتلة الأربعة المنزل حيث كان الجميع نياماً .
فز فرايكاوسكي من نومته ليجد مقتحمي المنزل واقفين عند رأسه وسألهم وقد تملكته الدهشة عما كان يجري فأجابه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق